St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد القديم من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

1518- ألم يُخطئ أيوب عندما مزَّق ملابسه وجزَّ شعر رأسه (أي 1: 20)؟ ألا يعتبر هذا تذمر على الله واعتراض على مشيئته تعالى؟

 

     يقول " د. محمد علي البَار": "في لحظات، الأنعام والأموال والأولاد يذهبون، وإذ بنا في منظر متناقض " فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ". موقف يدلُّ على الجزع وعدم الصبر. لماذا يمزّق أيوب جبَّته؟ لماذا يجزُّ شعر رأسه؟! ثم يأتي بعدها كلام نبي، كلام نوراني لا شك أن أيوب قاله حقًا: "عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا". يا له من كلام نوراني شفاف. أنوار النبوة تظلّله وهو مناقض تمامًا لِمَا سبق ولكثير مما سيأتي"(1).

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: 1- لقد بلغت الأخبار السيئة أيوب تباعًا كما يقولون: "تأتي المصائب تباعًا" وتحمل أيوب الصدمة تلو الصدمة في ممتلكاته، أمَّا عندما وصل الأمر إلى فقد جميع أولاده وبناته فجأة، دون أن يلم بهم أي مرض يهيئ ذهن الأب لاحتمال موتهم، وعندما حصل هذا كان قمة المأساة التي زلزلت الجبال. قُتل أولاده في وقت كان يحتاج إليهم للوقوف بجانبه بعد أن فقد كل ممتلكاته. لقد أثار " رئيس سلطان الهواء" (أف 2: 2) عاصفته الهوجاء على أولاد أيوب المجتمعين ببساطة ومحبة وفرح في بيت أخيهم الأكبر، فأسقط البيت عليهم ولم ينجو منهم أحد، بل جميعهم دفنوا تحت الأنقاض، وربما حدثت هذه الكارثة في اليوم الذي قدم أيوب عنهم ذبائح وشعر بالرضى والأمان، فإذ بهذا العالم السعيد يتحطم تحت قبضة الشيطان الرهيبة... فماذا فعل أيوب..؟ لم يمزق جميع ملابسه الخارجية والداخلية، إنما مزَّق جبته التي كان يرتديها على ملابسه، وكان هذا أمرًا اعتاد عليه أهل ذاك المكان للتعبير عن الكوارث التي تحل به، وأيضًا جزَّ شعر رأسه: "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ، وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ: عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ. الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا" (أي 1: 20، 21).

     ويقول " تشارلس ماكنتوش": "هنا نرى أنه قد صُرِح للشيطان أن يضع يده على ممتلكات أيوب، أن يحرمه من أولاده ويجرده من كل ثروته وحقًا أنه لم يفقد أي وقت في القيام بشغله، بل بسرعة مدهشة تمم مأموريته فالضربة تتلو الضربة وكلها تنصب بتتابع سريع على رأس أيوب المُخلِص، فبالكاد كان يصل الرسول حاملًا الأخبار المحزنة إلاَّ ويصل الآخر بأخبار هي أشد شؤمًا وأكثر فظاعة من سابقتها، وهكذا استمرت الصواعق مرعدة... يا له من منظر مؤثر! وحقًا لو نظرنا إلى المسألة بالمنظار الإنساني لقلنا أن هذا يكفي لأن يجعل العقل يختبل. كيف أنه في لحظة انقلبت حالة أيوب فيفقد بنيه العشرة ويصبح في حالة الفقر المدقع بعد الثروة الهائلة. ويا له من تباين عظيم بين الصورة في مستهل الأصحاح الأول والصورة في ختامه! ففي الأولى نرى أيوب تحف به أسرة عديد الأفراد متمتعًا بممتلكات واسعة وغنية، ولكن في الثانية نراه وقد أصبح وحيدًا وفقيرًا وعريانًا. يا للعجب! الله يسمح للشيطان... هكذا الله يُعلّم أولاده حتى ولو بتجريدهم من كل ما تتعلق به قلوبهم في هذا العالم.

     وهكذا للآن نرى أيوب "متمسكًا بكماله" ويقابل بثبات وهدوء كل المصائب المؤلمة والصدمات العنيفة التي كان مُصرَّحًا للشيطان بأن يأتي بها عليه، والأكثر من ذلك يرفض نصيحة امرأته ويعتبرها نصيحة جاهلة، وقصارى القول نراه وهو يتقبل كل شيء كما من يد الله ويحني رأسه اجلالًا أمام تدبيراته الغريبة وأعمال عنايته العجيبة"(2).

     ويقول " ديفيد أتكنسون": "لقد رأى أيوب يد الله خلف هذه الأحداث، وبشكل مذهل كان رد فعله الأول هو أن يتجاوب مع الله بالعبادة... إننا أمام رجل تغلَّب على بلايا متضاعفة، فقد ابتلىَّ بخسارة تلو الأخرى: لقد كانت حسرته واقعية غير مُبالغ فيها ولا يمكن تحملها... فقد كان متشبعًا بالشركة مع الله، فرأى أن الله هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ"(3).

     إذًا أيوب لم يعبد الله من أجل أية منافع شخصية، فبعد أن صارت جميع ممتلكاته، بل وأولاده في خبر كان، تجده يخر ويسجد لله ويعبده... أية فضيحة للشيطان المُدعي الكاذب!! ثم وضع أيوب أمام عينيه أن حياته ستنتهي ويعود للأرض، فالأرض أُمّنا منها أُخذنا جميعًا وإليها نعود كقول الرب لآدم: "لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُود" (تك 3: 19)... " فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا" (جا 12: 7)... " لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ" (1تي 6: 7)... حقًا قال المثل اللاتيني: "لا يمكن أن يصل أحد إلى حالة من الفقر المدقع أكثر مما كان عندما وُلِد".

     ولقد غاب عن أيوب أن الشيطان يقف خلف الستار، وأن حسده هو السبب في كل هذه الكوارث، وظن أنه الله ملك الكون وضابطه هو مصدرها، ومما زاد لهيب ناره عجزه عن تفسير ما حدث له وهو لم يخطئ الخطية التي تستوجب كل هذه العقوبات الطاحنة، ودخل في دائرة الغضب الإلهي دون ذنب جناه، ومع ذلك فأنه ظل محتفظًا بكماله متجاوزًا هذه الصدمة العظيمة بنجاح باهر، إذ بارك الله... فهل أخطأ أيوب في كل هذا؟ كلاَّ... بشهادة الله أن أيوب لم يخطئ، إنما هو عبَّر فقط عن مشاعره الإنسانية بتمزيق جبته وجزَّ شعر رأسه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. أنه أب فَقَدَ جميع أولاده في لحظة واحدة، وكانت هذه الصدمة كفيلة بالإطاحة بحياته، لكنه تماسك وحافظ على توازنه، وبارك اسم الله... حقًا أن الكتاب شهد له بوضوح: "فِي كُلِّ هذَا لَمْ يُخْطِئْ أَيُّوبُ وَلَمْ يَنْسِبْ للهِ جِهَالَةً" (أي 1: 22) فلم ينزلق لسانه للشتم واللعن، ولم يتهم الله بالقسوة، بل ظلّ أيوب كما هو أيوب الكامل المستقيم الذي يتَّقي الله ويحيد عن الشر... يا لِعظمة إيمانك يا أيوب!! ويا لِفرحة السماء بك يا أيوب وأنت غارق في أحزانك وجبتك ممزقة وأنت حليق الرأس وجالس على الأرض..!! ويا لِخزي وخيبة وعار الشيطان وجنوده وأعوانه!!

 

2- إن كان رأوبين عندما لم يجد أخيه يوسف في البئر مزَّق ثيابه (تك 37: 29) وإن كان يشوع عندما هُزم جيشه أمام قرية عاي مزَّق ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض (يش 7: 6)، وإن كان داود عندما أشرف ابنه على الموت صام واضطجع على الأرض (2صم 12: 16) وعندما قُتل ابنه أبشالوم الذي ناصبه العداء مريدًا أن يقتنص نفسه انزعج وصرخ (2صم 18: 33)، وإن كان حزقيا الملك عندما هُدّدت مدينته مزَّق ثيابه وتغطى بمسح (2مل 19: 1)، وإن كان عزرا الكاهن عندما علم بالزيجات الغريبة مزَّق ثيابه ورداءه ونتف شعر رأسه وذقنه (عز 9: 3)، وإن كان أصدقاء أيوب عندما رأوه في بلواه ولم يعرفوه مزَّق كل واحد جبته وذروا ترابًا فوق رؤوسهم (أي 2: 12)... فهل نستكثر على أيوب تمزيق ثيابه وجزَّ شعر رأسه بعد أن فقد كل أولاده وجميع ممتلكاته؟!، وهل يريد الناقد من أيوب أن يكون إنسانًا بلا مشاعر ولا إحساس يستوي لديه حياة أولاده مع موتهم..؟!! ألا يكفي أن أيوب لم يفعل كما كان يفعل الوثني، فلم يجرح جسده جرحًا غائرًا علامة على عمق الألم الذي يشق كبده، ولم يرفع يده نحو السماء ويسب ملكه وإلهه: "وَيَكُونُ حِينَمَا يَجُوعُونَ أَنَّهُمْ يَحْنَقُونَ وَيَسُبُّونَ مَلِكَهُمْ وَإِلهَهُمْ وَيَلْتَفِتُونَ إِلَى فَوْقُ" (إش 8: 21).

ويقول " الأب هيسيخيوس الأورشليمي": "يا لشجاعة أيوب التي تفوق كل ما يُخبر به! يا للتواضع! يا لحب الله..!

هل ظن العدو أن أيوب لا يبالي بالبقر، ولا يهتم بالأتن، وحسب القطيع أمرًا ليس بذي قيمة، والجِمال كأنها لا شيء، وكل ممتلكاته أمورًا يُستهان بها.

ماذا بخصوص الحزن على موت بنيه وبناته، كيف لم يُسقطه في رعبٍ؟

ذاك الذي كان أبًا لأبناء كثيرين لم يعد أحد ما يدعوه " أبي".

لم يقل لله: "أية خطايا كثيرة ارتكبها أيوب حتى يُحسب غير أهلٍ أن يحتضن أبنائه عند موتهم، ولا يكون قادرًا أن يكرمهم بدفنهم في قبرٍ، ولا في استطاعته أن يتعزى بدموعٍ كعادة طبيعية كاملة، ولا في قدرته أن يقود موكب جنائزي، كما يفعل عادة الآباء والأصدقاء؟"(4).

ويقول " القديس يوحنا الذهبي الفم: "فَقَامَ أَيُّوبُ وَمَزَّقَ جُبَّتَهُ، وَجَزَّ شَعْرَ رَأْسِهِ: لا تظنوا أيها الأحباء أن هذه الإيماءة علامة هزيمة، بل هي على وجه الخصوص إشارة إلى النصرة، فلو لم يتصرف قط لحُسب أنه كان في حالة ذهول، لكنه بالحق أظهر نفسه حكيمًا وأبًا تقيًّا في نفس الوقت، فأنه أية خسارة هذه التي لحقت به؟ أنه لم يحزن فقط على فقدان أبنائه وأيضًا حيواناته، وإنما على الطريقة التي ماتوا بها. مَنْ لا يتحطم أمام هذه الأحداث؟ أي رجل حديدي لم يتأثر بها؟"(5).

 

3- لم تكن تلك الكوارث التي حلَّت بأيوب البار تمثل المشيئة الإلهيَّة، بل هي مشيئة الشيطان الذي عجز عن إنجازها إلاَّ بعد الحصول على سماح من الله، وبعد أن أنجزها أُصيب بخزي شديد، لأنها لم تأتي ثمارها التي كان يرجوها، فلم يقدر أن يدفع بأيوب للتجديف على الله، وكذبت نبوءته الشيطانية عندما قال لله " إِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ" (أي 1: 11) هَدَفَ الشيطان إلى إقصاء أيوب عن الله، فإذ بأيوب يُلقي بنفسه في الأحضان الإلهيَّة... أية نصرة لأيوب هذه الصاعدة من أتون الألم، وكأن أيوب ارتفع وتسامى فوق هذا الأتون وترك الشيطان يحترق بنيرانه غير المنظورة.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) أباطيل التوراة والعهد القديم 2 - الله والأنبياء في التوراة والعهد القديم ص 484.

(2) ترجمة أحد الإخوة - أيوب وأصحابه ص 25، 26، 30.

(3) سلسلة تفسير الكتاب المقدَّس يتحدث اليوم - سفر أيوب ص 30.

(4) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير سفر أيوب ص 75، 76.

(5) المرجع السابق ص 76.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1518.html

تقصير الرابط:
tak.la/zdy982v