St-Takla.org  >   pub_Bible-Interpretations  >   Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament  >   Father-Tadros-Yacoub-Malaty  >   17-Sefr-Tobit
 

تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب (والشماس بيشوي بشرى فايز)

سلسلة "من تفسير وتأملات الآباء الأولين"

طوبيت 3 - تفسير سفر طوبيا

 

محتويات:

(إظهار/إخفاء)

* تأملات في كتاب طوبيا:
تفسير سفر طوبيا: مقدمة سفر طوبيا | طوبيت 1 | طوبيت 2 | طوبيت 3 | طوبيت 4 | طوبيت 5 | طوبيت 6 | طوبيت 7 | طوبيت 8 | طوبيت 9 | طوبيت 10 | طوبيت 11 | طوبيت 12 | طوبيت 13 | طوبيت 14

نص سفر طوبيا: طوبيا 1 | طوبيا 2 | طوبيا 3 | طوبيا 4 | طوبيا 5 | طوبيا 6 | طوبيا 7 | طوبيا 8 | طوبيا 9 | طوبيا 10 | طوبيا 11 | طوبيا 12 | طوبيا 13 | طوبيا 14 | طوبيت كامل

← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - (18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25)

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

الأصحاح الثالث

ارتفاع قلبين عجيبين إلى الحضرة الإلهية!

1. طوبيت يصلي ويسّبح الله

     

[1 -6]

2. مرارة نفس سارة وصلاتُها

     

[7- 15]

3. ارتفاع الصلاتين معًا في حضور المُبَجَّل رئيس الملائكة رافائيلُ

     

[16- 17]

من وحي طوبيت 2

     

 

St-Takla.org                     Divider

المضايقات وروح القوة

رأينا في الأصحاح الأول موقف طوبيت من المضايقات الخارجية، وكيف لم يستخدم قلمه ولا شهرته للهجوم على مضايقيه أو نقد المتهاونين:

أولاً: مع خنوع الكثيرين من سِبْط نفتالي وعدم ذهابهم إلى مدينه الله أورشليم والاشتراك في العبادة في هيكل الرب، اكتفى بقوله إنه كان يذهب وحده إلى أورشليم دون مهاجمته لسبطه أو بقية أسباط المملكة الشمالية.

ثانيًا: إذ اقتيد إلى السبي في نينوى، لم يصف المعاناة في الطريق إلى السبي أو طريقة حياته في نينوى، إنما ركَّز كل طاقاته وإمكانياته لخدمة المحتاجين ودفن القتلى سرًا.

ثالثًا: إذ طلب سنحاريب قتله، اكتفى بالهروب من نينوى، فصادر سنحاريب كل ممتلكاته وتحفَّظ على حنة زوجته وطوبيا ابنه. في صمتٍ سلَّم كل شيءٍ في يدي الله؛ ولَم تمضِ خمسون يومًا وإذا بسنحاريب يُغتَال بواسطة اثنين من أبنائه. هكذا سلك طوبيت بروح القوة والرجاء والعمل الإيجابي لحساب ملكوت الله والشعب المسكين.

وفي الأصحاح الثاني كان موقفه من جهة المضايقات الداخلية عجيبًا:

أولاً: إذ فقد نظره لم يتذمَّر على الله، لأنه فقد قدرته على دفن الموتى، كما فقد قدرته على العمل، فاضطرت زوجته أن تعمل في الحياكة لكي تُنفِق على الأسرة. وإذ سمع صوت جدي أهداه الذين يتعاملون مع زوجته كي يذبحوه، غالبًا في عيد الفوريم. أخطأ إذ تشكَّك أن يكون الجدي مسروقًا، وأَصرّ أن تقوم حنة بردّه لمن قدَّمه لها.

انفعلت حنة عليه واتهمته بأن ما حلّ  به يكشف عن أن صدقاته وأعماله الصالحة لم تصدر عن قلبٍ نقيٍ، وإلا ما كان قد حلَّت عليه هذه التجارب. لقد شاركت امرأة أيوب وأصدقاؤه في اتهامهم لأيوب.

لعل طوبيت راجع نفسه في تسرُّعه واتهامه امرأته أنها قبلت جديّا مسروقًا.

غالبًا ما ختم طوبيت هذا النزاع السريع الذي كان بينهما ربما لدقائق، وانطلق يصلي ويُسَبِّح الله، حاسبًا ما حلّ به إنما هو بسماح الله العادل والرحوم. وعوض تبادل الاتهامات مع زوجته، قَدَّم توبة عن نفسه وعن آبائه لله العادل والمُترفِّق بمؤمنيه.

لقد تعلَّم من التجارب الخارجية والداخلية أن الحلّ الحقيقي هو الرجوع إلى الله والاعتراف بخطاياه وجهالاته وأيضًا خطايا آبائه وعصيانهم لوصايا الله.

St-Takla.org                     Divider

صلاة شخصية أم جماعية؟

يُقَدِّم لنا هذا الأصحاح صورة عملية رائعة لمفهوم الصلاة وفاعليتها في السماء وعلى الأرض. لقد رُفِعَت صلاتان معًا في مكانين مختلفين، واحدة في نينوى والثانية في احمتا التي تقع جنوب بحر كاسبيان Caspian وهي حاليًا جزء من إيران، إحداهما في منطقة أشور والثانية في ميديا.

صعدت الصلاتان معًا في تناغمٍ عجيبٍ، وقدمتا لنا نموذجًا يلزمنا أن نقتدي به:

كان الشيخ القديس طوبيت في ساحة بيته، وقد تمررت نفسه من تعييرات زوجته، قائلة له بماذا نفعته صدقاته وأعمال برّه، فقد خسر أمواله وتعرَّض للقتل من الإمبراطور، فاضطر أن يهرب حتى مات الإمبراطور، وها هو أعمى، تعمل زوجته لتنفق على الأسرة. في هذه الظروف الصعبة لم يدخل طوبيت مع زوجته في جدالٍ وحوارٍ، لكنه رفع قلبه إلى الله وقدَّم تسبحة شكر لله مع اعترافه بخطاياه وخطايا آبائه. وظن أنه يقف للصلاة كمن في عزلةٍ، لكنه يُقدم صلاة شخصية للربّ إلهه، غالبًا ما كانت بصوتٍ خافتٍ أو في صمتٍ، كان يصلِّي بقلبه الذي لا يسمعه أحد سوى الله.

ظن طوبيت أنه ليس من أحدٍ غيره يذوق نفس المرارة مثله، ولا يوجد أحد سوى الله وحده الذي يعرف تمامًا مرارة نفسه، وعوزه، ومشاعره الخفية.

لم يدرك أنه في ذلك اليوم، وربما في ذات الساعة كانت قريبته في أحمتا بميديا تمارس نفس الشيء، فقد تمرَّرت نفسها من تعييرات جواريها، لأنهن حسبن أنه بسببها قُتِل الرجال السبعة يوم دخول كل منهم عليها في ليلة زفافها. إنها ابنة وحيدة ليس لها أخ أو أخت. وقد شاع أمرها، فصار يخشى أي شاب أن يتقدَّم للزواج منها. لم يعد لوالديها أقرباء بجوارهما؛ فمن الذي يرثهما بعد موت ابنتهما؟!

انطلقت الصلاتان معًا وكأنهما توأمتان في صحبة روحية رائعة، وإن كان طوبيت والفتاة سارة لم يعرفا بعضهما أو يسمع أحدهما عن الآخر، لكن الله سمع صلاتهما. إنها صلاة جماعية وعلاج مشكلة الواحد هي حلّ لمشكلة الآخر. فابن طوبيت تزوج سارة، وصارت العائلتان في سعادة تحت رعاية الله نفسه.

لقد دخلت الصلاتان في حضرة الله في وجود رئيس الملائكة رافائيل الذي سُرّ أن يختاره الله ليظهر في نينوى في صورة عاملٍ أجيرٍ، يقوم بخدمة الأسرتين!

في اختصار كشفت هاتان الصلاتان عن الآتي:

1. الصلاة الشخصية الصادرة من القلب تحمل أيضًا صلاة جماعية. فالمؤمن المُحِب لله يصلي بصيغه الجمع، حتى وإن تحدَّث بصيغة الفرد في صلاته. فهو يحمل في قلبه حبًا للكنيسة الجامعة من آدم إلى آخر الدهور، واشتياقًا إلى خلاص حتى غير المؤمنين والمُجَدِّفين والمُلحِدين غلال توبتهم، يطلب أن يُشرِق الربّ بنور صليبه وقيامته ليدرك الكل الحب الإلهي للبشرية كلها دون أن يُلزِمهم بذلك.

2. لا يمكن للزمن أو المكان أن يفصلنا عن بعضنا البعض، لأننا نتحدَّث مع الله بلغة الروح والحب التي لا يعوقها اختلاف الزمن أو بُعد المكان. كان طوبيت وسارة في بلدين، لكن كانت الصلاتان تلتحمان معًا في الربّ.

3. لا يستطيع عامل الجنس أن يفصلنا روحيًا، فطوبيت شيخ مقدس، وسارة فتاة مقدسة، التحمت صلاتهما معًا خلال نعمة الله الفائقة.

4. داود الملك والنبي كان يصلي من أجل الأجيال القادمة، وكثير من أحفاده تباركوا بصلواته حتى بعد نياحته، فتكررت عبارة "من أجل داود أبيك" أو "من أجل داود عبدي" أكثر من مرة (1 مل 11: 12؛ 2 مل 8: 19؛ 2 مل 19: 34؛ 2 مل 20: 6؛ مز 132: 10؛ إش 37: 35). هذا يدفعنا عمليًا إلى الآتي:

- يليق بالمؤمنين أن يُصَلُّوا من أجل البشرية حتى نهاية الدهور.

- يليق حتى بالأطفال أن يُصَلُّوا من أجل كل الأسرة: الوالدين والأجداد والأقرباء.

- يلزم الاجتماعات المتخصصة في الكنائس ألاَّ تعزل نفسها عن غيرها، فخادم التربية الكنسية في افتقاده للشباب والأطفال يخدم الأسرة كلها بروح الحُبّ مع التواضع.

- يليق برجال الكهنوت ألاَّ يحسبوا أنهم طبقة متميزة منعزلة عن الشعب. فالقديس يوحنا الذهبي الفم كان يقول لشعبه: "أنتم الأسقف"، لأن الطفل البسيط أقدر من الأسقف على جذب الأطفال للسيد المسيح، والسيدة الوقورة التي فيها مخافة الرب أقدر منه على الشهادة لإنجيل المسيح بين النساء خاصة في الأسواق وهكذا. كما كان يقول للأساقفة: "بدون الشعب أنت أسقف لمن؟!"

5. ربما كان طوبيت يظن أنه الوحيد يعاني من تعييرات زوجته، وسارة كانت تظن أنها الوحيدة تعاني من تعييرات جواريها، لكننا جميعًا نرى ربنا يسوع حمل كل التعييرات. إذ يقول "تعييرات معيريك وقعت عليّ" (مز 69: 9؛ رو 15: 3).

6. تُعتبَر صلاة كل من طوبيت وسارة صلاة توبة؛ وتُفتتح كل صلاة بتسبيح لله، حتى لا يحطم الحزن والمرارة نفس المُصَلِّي.

7. اشتهى كل من طوبيت وسارة الموت، بكونه خيرًا من الحياة. لكن واهب الحياة، الله نفسه بعث بخادمه الممتاز، رئيس الملائكة رافائيل، كي يسندهما ويعبر بهما من المرارة إلى العذوبة في الربّ.

8. مع تذوُّقهما مرارة التجربة التي حلَّت بكل منهما لم يُجَدِّفا على الله، ولا تجاهلا أنه صالح وبار وعادل في أحكامه، كما اعترفا بخطاياهما طالبين رحمته الإلهية.

* هكذا ليتنا نفكر أولاً أن ربّ الجميع عادل وكل أحكامه حق، فلماذا إذن هو غير عادل مع الذين له. إنه يلدنا لا لكي نخطئ أو نتعذَّب، إنما يسمح بأن نتألم من أجل أحكام صلاحه[1].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

9. سمع الربّ لصلاتهما، واستجاب لهما، وإن كانا لم يُدرِكا خطة الله وإرساله لرئيس الملائكة إلاَّ بعد أن تمتَّعا بعمل الله معهما ومع العائلتين. كثيرًا ما نظن أن الله لم يسمع لنا ونكتشف فيما بعد خطته في الوقت المناسب. لقد أعطاهما أكثر مما توقَّعا أو تصوَّرا.

St-Takla.org                     Divider

1. طوبيت يصلي ويسّبح الله [1 -6]

واغتَمَّت نَفْسي، فنُحتُ وصَلّيت بِأَنين، قائلاً: [1]

"عادِلٌ أَنتَ، يا ربّ وكل أَعْمالُك عادِلَة. وطُرُقُكَ كُلُّها رَحمَةٌ وحَقّ. أحكامك حق وعادلة إلى الأبد. [2]

اذكرني الآنَ وانظر إليّ، ولا تُعاقِبْني على خَطاياي وجَهالاتي وخطايا آبائي التي أخَطِأوا بها إِلَيكَ [3] ولَم يطِيعوا وَصاياكَ. فأَسلَمتَنا إِلى النَّهْبِ والسبي والمَوت، فصرنا أضْحوكَةِ في جَميعَ الأُمَمِ الَّتي شَتَّتَّنا بَينَها [4].

والآنَ أَحْكامِكَ الكثيرة صادِقة إِذا عامَلتَني بِحَسَبِ خَطايايَ وخَطايا آبائي. لأِنَّنا لم نَحفظ وَصاياكَ ولَم نَسلُكْ بِحَقٍّ أَمامَكَ [5].

والآنَ فبِحَسَبِ ما يحسن أمامك عامِلْني، ومُرْ أَن تُطلب روحي مِنِّي، فأُتحرر من الأرض وأُصبِحَ تُرابًا. فالمَوت خَيرٌ لي مِنَ الحَياة. لِأَنِّي سَمِعتُ تعييرات كاذِبَة، وحلّ بي غَمٌّ شديد. مُرْ أَن أَتخلص مِن هذه الشِّدَّة. دَعْني أَمْضي حرًا إِلى الموضع الأَبديّ ولا تحجب وَجْهِكَ عنِّي." [6]

سجَّل لنا طوبيت صلاته في وسط الضيق، وتُعتبر نموذجًا لنا نقتدي بها في وسط الشدة:

أولاً: تكشف عن أسلوبه في التعامل، إذ يتحدَّث بصراحة مُعلِنًا أنه كإنسانٍ ضعيفٍ اغتمت نفسه من مرارة الألم، وعبَّر عن ذلك بدموعه ونوحه مع أنين في داخله [1]. كان هذا التقي البار يتحرَّك بدون خوفٍ من الإمبراطور ليدفن القتلى الأبرياء، لكنه كان مُرّ النفس.

يليق بنا إن رأينا إنسانًا بارًا ينوح ويتنهَّد، أن نُشارِكه آلامه. لهذا يقول الرسول: "من يضعف وأنا لا أضعف؟! من يعثر وأنا لا ألتهب؟!" (2 كو 11: 29).

وإن سقط إنسان في خطية نتحدَّث معه عن التوبة بروح التواضع، لئلا نسقط نحن في خطيته بسبب التعالي والتشامخ.

* سبي إخوتنا يجب أن يُحسَب كأنه سبينا نحن. أحزان الذين في خطر هي أحزاننا. يلزمكم أن تتأكَّدوا بأنه يوجد جسم واحد لوحدتنا. ليست محبتنا وحدها بل وأيضًا تَدَيُّننا يدفعنا ويُشَجِّعنا أن ننقذ أعضاء أسرتنا[2].

الشهيد كبريانوس

ثانيًا: يقول: "اغتمَّت نفسي، فنُحت وصلّيت". إذ أدرك خطاياه وجهالاته وأيضًا خطايا آبائه، اغتمَّت نفسه وبكى وصلَّى.

كثيرون تغتم نفوسهم دون أن يقفوا أمام الله بروح الصلاة. هؤلاء يشبهون يهوذا الذي ندم على خيانته لسيده، وردّ الفضة التي استلمها مقابل هذه الخيانة، لكنه لم يرفع قلبه لله مُخَلِّصه طالبًا الرجوع إليه. أما بطرس فأنكر سيده ثلاث مرات، وإذ تطلَّع إلى سيده، سأله سيده: يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟ وكانت الإجابة: أنت تعلم يا رب أني أحبك!

كثيرون أيضًا يُصَلُّون لكن بدون ندامه صادقة، فيتحوَّل الرجاء إلى استهانة بقدسية الحياة مع الرب. هكذا يليق بِنَا أن يتفاعل القلب والنفس مع الجسد. لقد ندم ديماس اللص، ورافقت ندامته صرخة الرجاء: اذكرني يا رب متى جئتَ في ملكوتك.

ثالثًا: يفتتح الصلاة بالتسبيح لله، لأن أعماله عادلة وأحكامه حق [2]. تحت كل الظروف تدعونا الكنيسة في كل المناسبات أن نبدأ بالصلاة الربانية ثم صلاة الشكر قبل الترنُّم بمزمور التوبة (مز50) كتسبحة نُقَدِّمها لله غافر الخطايا ومُخَلِّص النفوس من الفساد، ومعيننا القدير.

التسبيح في وسط الضيق يقتلع من النفس روح التذمُّر، كما يحفظها من اليأس.

طوبيت هنا يُعَبِّر عن الطبيعة البشرية التي تئن تحت وطأة الضغوط النفسية القاسية، وهو يلجأ إلى الصلاة والدموع بدلًا من أن يسقط تحت اليأس، فلقد عانى موسى النبي من مثل هذه الآلام حين أخطأ الشعب واستحق عقاب الله، فطلب لنفسه الموت "فَإِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ بِي هَكَذَا فَاقْتُلنِي قَتْلاً إِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ، فَلا أَرَى بَلِيَّتِي" (عد 11: 15). وكذلك إيليا النبي ضاق به الأمر، فاشتهى الموت "ثُمَّ سَارَ فِي الْبَرِّيَّةِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ، حَتَّى أَتَى وَجَلَسَ تَحْتَ رَتَمَةٍ، وَطَلَبَ الْمَوْتَ لِنَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ كَفَى الآنَ يَا رَبُّ! خُذْ نَفْسِي لأَنِّي لَسْتُ خَيْرً مِنْ آبَائِي!" (1 مل 19: 4) وأيوب الصديق قال: "فَاخْتَارَتْ نَفْسِي الْخَنْقَ وَالْمَوْتَ عَلَى عِظَامِي هَذِهِ." (أي 7: 15) وقال يونان النبي: "فَالآنَ يَا رَبُّ خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي... وَحَدَثَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَنَّ اللَّهَ أَعَدَّ رِيحًا شَرْقِيَّةً حَارَّةً، فَضَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِ يُونَانَ، فَذَبُلَ فَطَلَبَ لِنَفْسِهِ الْمَوْتَ وَقَالَ: مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" (يون 4: 3، 8).

طلب الموت هنا هو تعبير عن شدة الآلام والاحتياج إلى معونة عاجلة، وأما عبارة طوبيت هنا "ومُرْ أَن تُطلَب روحي مِنِّي، فأُباد وأُصبِحَ تُرابًا"، فقد عاد فأوضح المقصود منها "مُرْ أَن أَنجُوَ مِن هذه الشِّدَّة" وهكذا، فهي لا تعني اليأس في مفهومه المُجَرَّد.

علينا إذًا أن نلجأ إلى الله عندما تشتد بنا الآلام، وسوف تهبنا الصلاة في حضرته السلام الذي ننشده، وسوف نستدرّ مراحم الله بدموعنا والتي تجد الطريق إليه في سهولةٍ ويسرٍ.

مزج التوبة بالتسبيح، فعِوَض الشعور بأن الله ترك شعبه للنهب والسبي والموت وسخرية جميع الأمم، يشهد أن الله عادل وكل طرقه رحمة وحق... وكما قال ديماس لزميله اللص الذي على يسار الرب المصلوب: "أما نحن فبعدلٍ (جوزينا)" (لو 23: 41). الله العادل يسمح لنا بالتأديب، لا لينتقم منا وإنما لكي ندرك مرارة ثمر الخطية والعصيان، فنهرب إلى مراحم الله لنطلب عطفه وحنانه!

رابعًا: لم يُلقِ باللوم على الآخرين، وإنما وهو يذكر خطايا آبائه يبدأ أولاً بالاعتراف بخطاياه وجهالاته [3-4].

خامسًا: يطلب طوبيت من الله أن يذكره. خلال معاملات الله تعلَّم طوبيت أنه متى ذكر الله إنسانًا أو جماعة يُقَدِّم لهم رحمته.

فعندما "ذكر الله نوحًا وكل البهائم التي معه في الفلك" (تك 8: 1)، أعلن الله رعايته ورحمته حتى على الحيوانات، فأجاز ريحًا على الأرض وهدأت المياه. إن كان الله قد أغلق باب الفلك على نوح، فهو لا ينساه وسط المياه، إنما يذكره في الوقت المناسب ليُنعم عليه كما بعالمٍ جديدٍ.

وعندما تنهَّد بنو إسرائيل من العبودية سمع الله أنينهم، فتذكَّر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب، ونظر الله بني إسرائيل (خر 2: 23-25).

يطلب طوبيت: "اذكرني"، لا بمعنى أن الله قد نسي طوبيت، وإنما أن يتطلَّع إليه بعين العطف، لأنه إن حاكمه حسب خطاياه وجهالاته، فبعدلٍ يسقط طوبيت تحت تأديبات قاسية. هذا ما يؤكده الكتاب المقدس: "كيف يتبرر الانسان عند الله؟" (أي 9: 2)؛ ""كيف يتبرر الانسان عند الله؟ وكيف يزكو مولود المرأة؟" (أي 25: 4)

"ولا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي." (مز 143: 2)؛ "إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح آمَنّا نحن أيضًا بيسوع المسيح، لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس، لأنه بأعمال الناموس لا يتبررُ جسد ما" (غل 2: 16).

هذه حقيقة أنه ليس إنسان يتزكى أمام الله، ولا مولود امرأة يتبرر في عينيه، بسبب فساد الطبيعة البشرية. وكما سبق فقال: "من يُخرج الطاهر من النجس؟" (أي 14: 4).

* "من هو الإنسان حتى يكون طاهرًا؟" فإنه بذات دعواه إنسانًا يوصف أنه أرضي ضعيف، فإن كلمة إنسان (بالعبرية) يُدعَى أرضًا (آداما adamah). كيف يمكن له أن يتحرر من الوصمة ذاك الذي خُلِق من الأرض، وبإرادته سقط في الضعف؟

لقد أضيف: "ومولود المرأة كيف يتبرر؟" فإن المرأة عرضت أول قطعة من الشر للإنسان في الفردوس. هكذا كيف يظهر بارًا من وُلِد من التي عرضت الشر؟

البابا غريغوريوس (الكبير)

* يحزن جميع القديسين بتنهُّدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة، يصرخون متضرعين: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حيّ" (مز 143: 2)...

ها أنت ترى إذن كيف يعترف جميع القديسين بصدقٍ أن جميع الناس كما هم أيضًا خطاة، ومع ذلك لا ييأسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهيرٍ كاملٍ بنعمة الله ورحمته...

لا يوجد أحد، مهما كان مقدسًا، في هذه الحياة بلا خطية. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المُخَلِّص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة...، إذ يقول: "واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" (مت 6: 12).

إذن إذ قَدَّم هذه كصلاةٍ حقيقيةٍ يمارسها قديسون، كما يجب أن نعتقد دون أدنى شك، من يمكنه أن يبقى عنيدًا ووقحًا ومنتفخًا بكبرياء الشيطان، فيظن أنه بلا خطية[3].

الأب ثيوناس

* بالحقيقة كلما كان الإنسان مقدسًا ومملوءً بالرغبة المقدسة تزداد بالأكثر دموع طلبته. أليس هذا هو قول مواطن أورشليم السماوية: "صارت دموعي طعامًا نهارًا وليلاً"، و"أعوم سريري، وأبلل مضطجعي"، و"تنهداتي لا تتوقَّف" (مز 42: 3؛ مز 6:6)[4].

القديس أغسطينوس

سادسًا: مهما بلغ الإنسان من التقوى أو ممارسة أعمال البرّ، لا يستطيع أن يعرف ما هو لبنيانه، لهذا يطلب طوبيت من الله: "بحسب ما يحسن أمامك عاملني" [6].

سابعًا: إن كان طوبيت قد اشتهى الموت، وحسبه أفضل من الحياة على الأرض، لكنه لم يبلغ إليه اليأس، ولا فقد رجاءه في الحياة الأبدية، إذ يقول: "دعني أمضي إلى الموضع الأبدي"، كما يثق أنه سيرى الربّ وجهًا لوجه، إذ يقول: "لا تحجب وجهك عني" [6]. يقول الرسول: "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغزٍ، لكن حينئذ وجهًا لوجهِ. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عُرفتُ."(1كو 13: 12)

* هذه الرؤية محفوظة كمكافأة لإيماننا، يقول عنها الرسول يوحنا: "إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (1 يو 2:3). نفهم "وجه" الله هنا [6] إعلانه، وليس جزءًا من جسد مادي[5].

* نبدأ يكون لنا الجسد الروحاني كما وُعدنا في القيامة، لننظره حتى في الجسد، إما برؤية عقلية أو بطريقة إعجازية، حيث أن الجسد الروحي لا يمكن وصفه.

سوف نراه حسب قدرتنا بدون حدود للمكان، ليس متسعًا في جزء وضيقًا في آخر، فإن هذا ليس بجسدٍ بل هو حاضر بكامله في كل موضع[6].

القديس أغسطينوس

ثامنًا: كثيرًا ما يُظهِر الكتاب المقدس أنه يعاقب الأبناء من أجل أخطاء الآباء [3] كما جاء في (خر 20 :5). وجاء في بعض الصلوات الواردة في الكتاب المقدس: "لا تذكر يا رب معاصينا ولا معاصي آبائنا" غير أن الله يعاقب الأبناء فقط عندما يقتدون بآبائهم الأشرار، فيبدو كأن الأبناء لا ذنب لهم. يسمح الله بذلك لكي يرجعوا إلى الله ويعترفون بشرور آبائهم فيكفون عن الاقتداء بهم.

تاسعًا: إذ سمع اتهامات باطلة، في ضعفه اشتهي الموت فيرجع جسده إلى التراب، خير من الحياة ويسمع هذه التهديدات التي تجلب على نفسه حزنًا [6].

عاشرًا: لم يُقَدِّم لله حلولاً بشرية، وإنما بثقةٍ في أُبوّة الله، طلب "بحسب ما يحسّن أمامك عاملني" [6].

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider

St-Takla.org Image: Depiction of the demon Asmodaeus, a king of demons: Asmodée - The Dictionnaire Infernal (Infernal Dictionary) book, by Jacques Auguste Simon Collin de Plancy, 1863 صورة في موقع الأنبا تكلا: تصور للشيطان أزموداوس - من صور القاموس الجهنمي، تأليف جاك أوجوست سيمون كولين دي بلانسي، طبعة 1863 م.

St-Takla.org Image: Depiction of the demon Asmodaeus, a king of demons: Asmodée - The Dictionnaire Infernal (Infernal Dictionary) book, by Jacques Auguste Simon Collin de Plancy, 1863

صورة في موقع الأنبا تكلا: تصور للشيطان أزموداوس - من صور القاموس الجهنمي، تأليف جاك أوجوست سيمون كولين دي بلانسي، طبعة 1863 م.

2. مرارة نفس سارة وصلاتُها [7- 15]

وفي ذلك اليَومِ سارةَ بنت رَعوئيلَ Raguel السَّاكِنِ في مَدينةِ أَحْمَتا Ecbatana، بميديا، سَمِعَت هي أَيضًا تعييرات مِن جَواري أَبيها [7]، لأِنَّه كانَ قد عُقِدَ لَها على سَبعَةِ رِجال، وكان أَسموديوس Asmodeus، الشَّيطانُ الخَبيث، يَقتُلُهم قَبلَ أَن يَدخُلوا علَيها. فقلن لَها:

"أما تعلمين أنكِ خنقتِ رجالك؟ والآن تزوجتِ سَبْعَةِ، ولم تنتفعي بأَحَدِهم! [8] لماذا تُعَذِّبينَنا؟ ما داموا قد ماتوا، الحقي بِهم! فإننا لم نرَ لَكِ ابْنًا ولا ابنة!" [9]

إذ سمعت ذلك اغتمت نَفْسُها جدًا وأَرادَت أَن تَشنُقَ نَفْسَها. إلا أنها قالت: "أنا ابنة وحيدة أبي، إن فعلت هذا أجلب عليه عارًا، وأُنزِلَ شَيخوخَةَ أَبي بحزنٍ إِلى مَثْوى الأَمْوات [10].

حينَئِذٍ بلغت نَحوَ النَّافِذَة وصَلَّت، فقالَت:

"مُبارَكٌ أَنتَ يا رب، يا إلهي، ومُبارَكٌ هو اسمك القدوس المُمَجَّد في كل الدهور، ولتسبحكَ كل أَعْمالُكَ إلى الأَبَد. [11]

الآنَ يا رب أَرفَعُ إِلَيكَ عينيّ ووجهي [12]. مُرْ أن أَتحرَّر مِنَ الأَرض ولا أَسْمَعَ تعييرات بَعدَ [13].

إِنَّكَ، يا رَبُّ، عالِمٌ بِأَنِّي ما زِلْتُ بريئة من كُلِّ دَنَسٍ مع رَجُل. [14] ولم أُدَنِّسِ اسمي ولا اسْمَ أَبي في أَرضِ سبيي.

إِنِّي وَحيدة أبي، ولم يُرزَقْ طفلاً آخَرَ يَرِثُه، ولَيسَ لَه أَي قَريبٌ، ولا تبنَّى ابنًا أحفَظُ نَفْسي لأِكونَ زَوجةً له.

ها إِنِّي فَقَدتُ سَبعَةَ أَزْواج، فلِماذا أَحْيا بَعدَ؟ وإِن لم تَشأْ أَن تَقتُلَني، فمُرّ بالعناية بأبي، وارحمني فلا أسمع تعييرًا." [15]

أحمتا أو اكباتانا [7]: كانت توجد في ميديا مدينتان باسم راجيس، إحداهما دُعِيَت باليونانية اكباتانا Ecbatana وهي المدينة التي كان يُقِيم فيها غابيلوس والثانية كان يُقِيم فيها رعوئيل[7].

اسموديوس [8]: جاء في العبرية "ملك الشياطين" في تلك المدينة، وهو يثير الشهوة في البعض لكي يُحَطِّمهم[8]. يُدعَى الشيطان "اسموديوس" ومعناه "المُخَرِّب". جاء عنه في In Tyndale Bible Dictionary TBD أنه شيطان شرير ومحب حبًا شريرًا في قصة طوبيت.

يقول السيد المسيح عن الشيطان إن اللص الذي يأتي ليسرق ويقتل ويُهلك (يو 10: 10).

ربما كانت قصة زواج سارة بسبعة رجال دون أن تُنجِب منهم في ذهن الصدوقيين أثناء حوارهم بخصوص القيامة من الأموات (مت 23:22-33).

* ماذا يعني: "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24). أنتم ترون أن هذا الوحش الشرير (الشيطان) رأى أن أول كائن بشري خُلِق ليكون خالدًا، وسمته الشريرة (هي الحسد) قادته إلى عصيان الوصية، وبهذا جلب عليه عقوبة الموت. بهذا فإن الحسد يُسَبِّب خداعًا، والخداع عصيانًا، والعصيان موتًا... عدو خلاصنا أدخل سمة الحسد التي له، وجعل الإنسان الأول يسقط تحت عقوبة الموت مع أنه كان خالدًا. لكن بمحبة الرب الرعوية أعاد لنا الخلود بموته، فصرنا في امتيازٍ أفضل مما كنا عليه.

الأول نزعنا من الفردوس، والأخير قادنا إلى السمو.

الأول جعلنا تحت حكم الموت، والأخير منحنا الخلود.

الأول حرمنا من مباهج الفردوس، والأخير أَعَدّ لنا ملكوت السماوات.

أرأيتم إبداعات ربّكم الذي وجَّهها ضد رأس العدو بذات سلاحه (حسد إبليس) الذي هو مكره ضد خلاصنا. بالحقيقة ليس فقط تمتَّعنا بامتيازات أعظم، وإنما جعله أيضًا خاضعًا لنا بالكلمات: "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب" (لو 10: 19)[9].

القديس يوحنا الذهبي الفم

* "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 24). قَدَّم الشيطان الموت لنا، لكن ليس من إلزامٍ على الإنسان أن يقبله، لأن ليس للشيطان أن يجلب عليك شيئًا. موافقتك يا أيها الإنسان هي التي قادتك إلى الموت[10].

القديس أغسطينوس

قَدَّم كل من طوبيت وسارة صلاة صادرة من القلب، وذلك كما فعلت سوسنة التي اتهمها شيخان من بني إسرائيل ظلمًا أنها كانت تُعانِق شابًا في حديقة المنزل. صرخت من كل قلبها إلى الله، فأرسل لها ملاكًا يعينها.

* عندما صلَّت سوسنة سُمِع لها وأُرسِل ملاك ليُعِينها. هكذا أيضًا في حالة طوبيت وسارة. فإنهما عندما صليا سُمِعَت طلبة الاثنين في نفس اليوم، وفي نفس الساعة وأُرسِل الملاك رافائيل ليشفيهما معًا (طو 3: 17)[11].

القديس هيبوليتس الروماني

يرى العلامة أوريجينوس أن السبعة رجال يرمزون إلى الفلسفات الوثنية التي تحرم الإنسان من التمتُّع بالسماويات والأبديات. رقم 7 يشير إلى العالم الزمني، حيث ينظر إلى الأسبوع (7 أيام) يشير إلى الزمن بوجهٍ عام. الفلسفات الوثنية تقاوم النفس من انطلاقها نحو الأبديات وتربطه بالأرضيات. أما رقم 8 فيشير إلى الحياة الآخروية، أي ما وراء العالم الزمني.

تُرَى ما هي الاتهامات الكاذبة التي جعلت جواري سارة يُعَيِّرونها؟

أولاً: إلقاء اللوم على سارة فيما حدث مع أزواجها السبعة، عوض اتهامهن لأنفسهن بجهلهن ما حدث مع أزواجها، إذ قام أحد الشياطين بقتلهم.

ثانيًا: في جسارة وهن جواري يسألونها أن تنتحر، قائلات: "الحقي برجالك السبعة الذين قمتي بقتلهم" (راجع طو 3: 9).

ثالثًا: اتهمن سارة ظلمًا أنها عاقر، ليس لها ابن أو ابنة [9].

رابعًا: كان يليق بهن أن يسألن سارة، ويطلبن منها أن تفسر لهن علة موت هؤلاء الأزواج قبل أن يحكمن عليها.

خامسًا: دفعن سارة الابنة الوحيدة لوالديها إلى الغم الشديد، حتى أرادت أن تنتحر. وإن كانت لم تستجب لهذه المشاعر، بل انطلقت إلى النافذة المُطِلَّة نحو أورشليم لتصلِّي، وهي في هذا تشبَّهت بدانيال النبي الذي قيل عنه: "فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة (أن من يطلب من إله أو إنسان غير ملك بابل يُطرَح في جب الأسود)، ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة في عليته نحو أورشليم، فجثا على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم وصلَّى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك" (دا 6: 10). وذلك حسب وصية الله وحسب قول سليمان الذي حثّ الشعب أن يُصَلُّوا متجهين نحو الهيكل[12].

في صلاة تدشين الهيكل طلب سليمان من أجل الذي يبسط يديه في وسط الضيق نحو الهيكل أيقونة السماء، يقول: "فاسمع أنت من السماء سكناك، واغفر واعطِ كل إنسانٍ حسب طرقه، كما تعرف قلبه" (1 مل 8: 38-39).

حسن لنا في وقت ضيقنا أن نتَّجِه ببصرنا الداخلي نحو مدينة أورشليم العليا، فتنطلق قلوبنا نحو السماء، ويتحوَّل الضيق من ضيق القلب والمرارة إلى اتساعه وتذوُّق عذوبة الأبدية.

يرى القديس أغسطينوس أن الذين يريدون أن يطيروا ويصعدوا إلى الله، فيقطنون في أورشليم السماوية، حيث لا يوجد أصحاب شفاه الكذب واللسان الغاش يعيشون لله في حالة تغرُّب عن مدينتهم السماوية.

* ويلي لغربتي، قد صارت (أورشليم السماوية) بعيدة". لقد رحلت عنكِ، صرت غريبًا. لم أبلغ تلك المدينة التي سأعيش فيها دون وجود شخصٍ شريرٍ. لم أبلغ بعد إلى صحبة الملائكة حيث لا أخشى أية أذية...

هناك جميعهم أبرار وقديسون، يتمتَّعون بكلمة الله بدون قراءة، وبدون حروف، لأن ما هو مكتوب لأجلنا على صفحات سيدركونه هناك خلال وجه الله.

أية مدينة هذه؟ إنها مدينة عظيمة بالحق، بائسون هم التائهون عنها[13].

القديس أغسطينوس

* أتوق إلى عطية واحدة أُصارِع من أجل مجدٍ واحدٍ وحده، مجد ملكوت السماوات"... كلما أشرق هذا الجمال الإلهي على أحد القديسين يترك فيه حافزًا لرغبة لا تُحتمَل، فيصرخ مضطربًا من جهة الحياة الحاضرة: "ويل لي، فقد طالت غربتي عليَّ، متى أتراءى أمام حضرة الله؟" (مز 120: 5؛ 42: 2)[14].

القديس باسيليوس الكبير

St-Takla.org                     Divider

3. ارتفاع الصلاتين معًا في حضور المُبَجَّل رئيس الملائكة رافائيلُ [16- 17]

استجيبت صَلَاة كليهما في حضور المُبَجَّل العظيم رافائيلُ [16]، فأُرسِلَ لِيَشْفِيَ كِلا الِاثْنَينِ، ويُزيلَ القشور البَيضاءَ عن عَينَي طوبيت، ويُعطِيَ سارةَ ابنة رَعوئيلَ زَوجةً لِطوبِيَّا بنِ طوبيت، ويقيد أَسموديوس الشَّيطانَ الخَبيث. فمِن حَقِّ طوبِيَّا أَن يرثها. في ذلكَ الحين رجع طوبيتُ ودخل بَيتِه، وأَمَّا سارةُ ابنَةُ رَعوئيل فنَزَلَت مِنَ عُليتها [17].

سمع الربّ لطوبيت وسارة من أجل ما حلّ بهما وأرسل لهما رئيس الملائكة رافائيل كي يكشف عن رأفة الله. أما عن دور الملائكة في حياتنا، فقد قال عنهم بولس الرسول أنهم "أرواح خادمة مُرسلَة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14). وهنا نرى صورة تطبيقية لما قاله بولس الرسول. فالله أرسل رئيس الملائكة رافائيل ليُسَهِّل أمور أولاده. وكم من مرة يحدث معنا ذلك دون أن ندري. وربما ننسب حلول مشاكلنا للصدفة أو الحظ أو لذكائنا ويكون الله هو الذي سهَّل لنا الأمور بواسطة ملائكته، فقد قيل:

"ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم". (مز 7:34)

"يوصي ملائكته بك، لكي يحفظوك في كل طرقك". (مز 11:91)

"يقول إبراهيم لعبده: يرسل ملاكه أمامك". (تك 7:24)

وهكذا قال يعقوب: "الملاك الذي خلصني من كل شر يبارك الغلامين..." (تك 16:48)

قيل عن سارة قريبة طوبيت الساكنة في راجيس Rages أو أحْمَتَا أو اكباتانا Ecbatana عاصمة مادي، إنها صلَّت بجوار النافذة (طو 3: 11)، متطلعة نحو الهيكل في أورشليم.

يكشف السفر عن رعوئيل وزوجته إدنا Edna مع ابنتهما سارة أنهم أناس إيمان. قال رعوئيل: "لا أشك أن الله قد قبل صلواتي ودموعي أمامه"؛ أما إدنا فأمسكت ابنتها وأدخلتها إلى المخدع، وهي تقول لها: "تشجَّعي يا بنية، ورب السماء والأرض يهبك نعمة عوض الحزن الذي قاسيتِ منه" (طو 7: 17).

نعَيِّد بتكريس الكنيسة التي باسم الملاك رافائيل في 3 من النسي، بناها البابا ثيؤفيلوس البطريرك الثالث والعشرون.

يُعتبَر الملاك رافائيل شفيع المرضى، والحامي والراعي للملاحين والمسافرين، ونصير الأطباء وأخصائي العيون، والمشتغلين بتحضير الوصفات الطبية، وشفيع الراغبين في الحياة الزوجية السعيدة.

يروي القديس يوحنا الذهبي الفم رؤياه الخاصة بالملاك رافائيل في عظة ألقاها عن رئيس الملائكة رافائيل في يوم تذكاره في الكنيسة التي بناها الملك أركاديوس، قال فيها: [قال لي: لا تخف، أنا عبدُ زميل لك. اسجد لله... أنا رافائيل رئيس الملائكة الذي أسلمك المسيح ليدي منذ صغرك، ولم أتركك منذ ولادتك إلى اليوم ساعة واحدة ولا طرفة عين، ولن أتركك حتى اليوم الذي أصحبك فيه إلى الملك المسيح.]

وللملاك العظيم القديس رافائيل مساعدات وظهورات لكثير من الشهداء والقديسين، من بينهم الشهيد الأمير تادرس الشُطبي والقديس فيلوثيئوس والشهيد الأنبا إيسي والقديس توماس السائح والملكة التقية والمحبة لله أوفيمية.

[كل الأجيال الذين كانوا من آدم إلى اليوم، يجدون رافائيل حصنًا للبشرية. وكل واحد من القضاة والأنبياء والأبرار والملوك والصديقين، كان ناصرًا لهم. وآباؤنا القديسون الرسل هو الذي أرشدهم حتى ردّوا المسكونة إلى معرفة الحق. والشهداء المجهادون الذين لربنا يسوع المسيح لم يُفارقهم جميعًا حتى لبسوا الإكليل الغير المضمحل. والنساك المختارون التائهون في البراري، كان رافائيل يحيط بهم حتى أكملوا سعيهم. ملاك الرب يُحيط بكل خائفيه يحرسهم ويُنَجِّيهم. فلنُمَجِّد الثالوث المقدس المساوي لكي يحفظنا من التجارب. اشفع فينا يا رئيس الملائكة الطاهر رافائيل مُفَرِّح القلوب ليغفر لنا خطايانا.]

ذكصولوجية الملاك رافائيل – الإبصلمودية السنوية

ما هي ثمرة هاتين الصلاتين؟

أولاً: صعدتا معًا كأنهما صلاة واحدة ارتفعت إلى الله واهب التعزية الحقيقية.

ثانيًا: عندما نسمع "في حضور المُكرم المُبجَّل رافائيل"، لا يعني أن هذا الملاك كان في الحضرة الإلهية كمن في عزلةٍ عن بقية رؤساء الملائكة وعن الطغمات السماوية الأخرى، إذ دستور السماء هو الحب والتسبيح الجماعي وأيضًا العمل الجماعي، وإن كان لكل طغمةٍ أو لكل عضوٍ في كل طغمةٍ عمل خاص. ذُكِر اسم رئيس الملائكة لأن الله اختاره ليقوم بدورٍ خاص في وسط ضيق العائلتين.

ثالثًا: اسم "رافائيل" معناه الله يتراءف، أو الله يشفي. في تمجيد هذا الملاك (الذكصولوجية) تحسب الكنيسة أنه متُخصَّص في مساندة الشهداء، يُرَافِقهم حتى يدخل بهم إلى الفردوس.

رابعًا: أزال الملاك القشور البيضاء عن عيني طوبيت الجسديتين، وفي نفس الوقت أزال كل جهالة أو ظلمة تفسد الرؤية الحقيقية لله والسماء!

خامسًا: حثّ الملاك طوبيا على الزواج من سارة، وطمأنه، معلنًا أن هذا الزواج حسب إرادة الله.

سادسًا: قيد رئيس الملائكة الشيطان الخبيث الذي قتل الأزواج السبعة الوثنيين الذين تقدَّموا للزواج من سارة. وقد سمح الله بقتلهم، لأنه لا يجوز لسارة التي من سبط نفتالي أن تتزوج رجلاً وثنيًا. لا نتعجَّب أن الشيطان الخبيث قتل الأزواج السبعة الوثنيين. يقول السيد المسيح عن الشيطان أنه كان قتَّالاً للناس منذ البدء" (يو 8: 44). غير أنه حين كان الله يسمح للشيطان أن يجرب أيوب كان يضع له حدودًا لا يتجاوزها (أي 2: 6).

سابعًا: تعبير "من حق طوبيا أن يرثها" يشير إلى مفهوم الزواج، حيث يقتني الزوج امرأته كميراثٍ ثمين يتقبَّله من الله؛ وهي تقتني رجلها كميراثٍ تعتزّ به. هكذا كل منهما يقتني الآخر، فلا يجوز لأي من الطرفين أن يُسَلِّم جسده لغريبٍ. ليس للزوج أو الزوجة سلطان على جسده أو جسدها، بل كل منهما يحسب جسده ملك للطرف الآخر (1 كو 7: 4).

ثامنًا: بعد الصلاة استراحت نفس كل من طوبيت وسارة. دخل الأول إلى بيته لأنه صلَّى في ساحة البيت كمن ليس له موضع يستريح فيه، الآن دخل في طمأنينة ينتظر عمل الله في حياته وفي حياة الأسرة كلها. ونزلت سارة من عليتها وهي تشعر أنها في حضرة الله.

شفاعة الملائكة: يقول العلامة أوريجينوس [ليس فقط رئيس الكهنة يُصَلِّي مع أولئك الذين بالحق يُصَلُّون، بل والملائكة الذين يفرحون بخاطي واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة (لو 15: 7). وأيضًا نفوس القديسين الذين رحلوا. هذا واضح من حالة رافائيل الذي قَدَّم ذبيحة عقلية لله من أجل طوبيا وسارة (طو 12: 12) ...[15]]

إذ وجهت الجواري تعييرات قاسية ومُرّةَ لسارة، اتجهت نحو الله. لتُقَدِّم ذبيحة التسبيح (مز 51: 21). سبَّحت الله ليزداد حُبَّها له، وتتمتَّع بمراحمه.

St-Takla.org                     Divider

من وحي طوبيت 3

كنيسة تتحدَّى بُعْد المسافة!

* يُقَدِّم لنا طوبيت بنينوى وقريبته الشابة سارة باحمتا درسًا رائعًا!

مع قرابتهما لم يلتقيا قط، ولا عرف أحدهما عن الآخر شيئًا.

وقف طوبيت فاقد البصر يُصَلِّي،

وفي نفس الوقت وقفت سارة المُرَّة النفس تُصَلِّي.

كِلاهما في ضيق يُسَبِّحان الله،

وحملت صلاة كل منهما رائحة ذكية.

تعجَّب رافائيل رئيس الملائكة من انطلاق الصلاتين من مدينتين أو دولتين مختلفتين.

صعدت الصلاتان كما من كنيسة واحدة!

كثيرًا ما صدرت صلوات من مبنى كنيسة واحدة،

لكن لكل صلاة روحها المختلف!

تأهَّل الاثنان أن يرسل الله لهما رئيس الملائكة ليعمل في الأسرتين،

ويُقِيم منهما أسرة صغيرة مقدسة: طوبيا وسارة!

هب يا ربّ للمؤمنين في العالم كله أن تنطلق صلواتهم بنفسٍ واحدة وروح واحدة (أع 1: 14).

فقد طوبيت بصره، فأرسل له الربّ رئيس الملائكة يخدمه هو وأسرته وأقرباءه!

فقدت سارة السبعة رجال المُتقدِّمين للزواج منها،

فجاء الثامن ربّ المجد عريسًا لكل المؤمنين.

عانى طوبيت وأيضًا سارة من تعييرات البشر لهما،

فإذا بالربّ يُتَوِّجهما بالفرح والمجد والكرامة.

حوّلت يا ربّ مرارة نفسيهما ومرارة نفوس العائلتين إلى عذوبة فائقة!

هيئني يا ربّ وهيئ كل المؤمنون لنصير جميعًا العروس السماوية لك يا أيها العريس السماوي!

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

[1] Homilies on Ps. 118: 137-138

[2] Letter 62: 1.

[3] Cassian: Conf., 23: 16–18.

[4] City of God 20: 17.

[5] City of God 22:29.

[6] Letter to Consentius, 120.

[7] George Haydock: Catholic Commentary on Tobit, chapter 3:7.

[8] George Haydock: Catholic Commentary on Tobit, chapter 3:8.

[9] Homilies on Genesis, 46:15-16.

[10] On St. John, tractate 12:10.

[11] Exegetical Fragments, Scholia on Susanna, Verse 55.

[12] St. Jerome: PL 25: 659.

[13] On Ps 120 (119).

[14] Reg. Feus 2: 1.

[15] ACW 19: 43.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

← تفاسير أصحاحات طوبيا: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/17-Sefr-Tobit/Tafseer-Sefr-Tobia__01-Chapter-03.html

تقصير الرابط:
tak.la/nrzyb7s