← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22
ما حملته رسالة بطرس الرسول الأولى (الأصحاحان 2، 3) وغيرها من الرسائل الأخرى من اقتباسات زاخرة في هذا المزمور، وما ظهر من أصدائه عليها، لهو دليل قوي على ما تدين به كل الأجيال لهذا المزمور.
كتب داود النبي هذا المزمور عندما غيّر عقله أمام أبيمالك، متظاهرًا بالجنون، فطرده الملك. لقد ذهب داود النبي مرتين إلى أرض الفلسطينيين؛ المرة الأولى كان بصحبة عدد قليل من الرجال (1 صم 21: 4-15)، وقد ملأه الخوف إذ جاء إلى جت مدينة جليات الجبار الذي قتله داود، وقد جاء يحمل سيف بطلهم، فثاروا ليقتلوه. لقد وجد أرامل وأيتامًا ترملن وتيتموا بسبب داود، ولم يكن ممكنًا أن يستضيفوه كطريد شاول، إنما حسبوه جاسوسًا خبيثًا ومتهورًا. قُدّم للملك فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون، فقد تمتع المجانين بامتيازات، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم، كما حسب البعض أن بهم روحًا يخافونه ويرهبونه(651). طرده الملك فهرب إلى مغارة عدلام، وقد نظم هذا المزمور بهذه المناسبة: في المرة الثانية جاء إلى جت (1صم 27-29) ومعه ستمائة جندي وعائلته، فلم يتشكك الفلسطينيون في أمره، خاصة وأن مطاردة شاول له صارت علانية ومتكررة عرفتها الأمم المحيطة(652). رحب به ملك جت وأعطاه صقلغ ليسكن فيها، ربما ليكون سندًا له، أو ليقيم منه ومن رجاله قوة مضادة لشاول. مكث هناك سنة وأربعة أشهر.
في عدلام "اجتمع إليه كل رجل متضايق، وكل من كان عليه دين، وكل مرّ النفس، فكان عليهم رئيسًا، وكان معه نحو أربعمائة رجل" (1 صم 22: 2).
لقد أخفق إخفاقًا ذريعًا ولم يسلك بالإيمان. لا يمكننا أن نبرر صنيعه هذا أمام الملك، متظاهرًا بالجنون لخداعه. فالحق والإخلاص والصراحة هي أمور حتميّة يلتزم بها المؤمن في كل الظروف لا مناص منها، فلا يليق برجل الله أن يلجأ إلى طريق خداع يحمل ضعف إيمان، وإن كان أولئك الذين يبررون ما تتطلبه فنون الحرب واستراتيجيته يوافقون على هذا المسلك الخادع الذي لجأ إليه داود!
إن كان داود النبي قد ضعف فالرب لم يخذله، وإنما برحمته خلصه. لهذا امتلأت نفس داود بالتسبيح، مقدمًا الشكر لله على الدوام من أجل معونة نعمته ورأفته المتحننة.
لا توجد صعوبة بخصوص اسم الملك، فقد ورد في السجلات التاريخية أنه "أخيش"، وجاء هنا "أبيمالك"؛ فقد كان "أبيمالك" لقبًا يخص ملوك الفلسطينيين آنذاك، وهو يعني: "أبي يملك"، وذلك كما كان لقب "فرعون" خاص بملك مصر قديمًا، و"قيصر" لأباطرة الرومان، و"أجاج" لملوك عماليق.
من جهة مادة المزمور، لا يبدو فيه تناقض؛ فإن كان داود قد سلك بما لا يتفق مع الإيمان، بل في خوف وعدم إيمان، لكنه مع ذلك لم يتكل على تصرفاته وإنما كان في أعماق قلبه واثقًا بالرب. وحينما صار في أمان مختبئًا في مغارة عدلام اعترف بفشله المخزي أمام الرب، وحسب خلاصه ليس ثمرة تصرفاته إنما هو عطية إلهية من قِبَلْ صلاح الله. هذا ما ملأ نفسه بروح التسبيح لتفيض بهجة تشيد بصلاح الرب ومراحمه.
من جهة لغة المزمور فهو من المزامير الهجائية، يقترب في بنيانه من المزمور 25، كلاهما يبدأن بالحروف الأبجدية العبرية بالترتيب، ولكن حرف vow محذوف.
أخيرًا فإننا حينما نشعر أننا قد فقدنا كل شيء، وأننا قد أخفقنا تمامًا نجد في المزمور 34 العون، إذ يشجعنا على المثابرة. في هذا المزمور كما في أمثلة القديسين العظماء المذكورين في (عب 11) نختبر عذوبة صلاح الله؛ ومن ثم نقدر أن نشترك في ترديد تسبحتنا السماوية هنا على الأرض. نحتمي في الله هنا كعربون للسلام الأبدي(653).
1 أُبَارِكُ الرَّبَّ فِي كُلِّ حِينٍ. دَائِمًا تَسْبِيحُهُ فِي فَمِي. 2 بِالرَّبِّ تَفْتَخِرُ نَفْسِي. يَسْمَعُ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ. 3 عَظِّمُوا الرَّبَّ مَعِي، وَلْنُعَلِّ اسْمَهُ مَعًا.
"أبارك الرب في كل وقت،
وفي كل حين تسبحته في فمي" [1].
تعتبر الآيات [1-3] تعليقًا رائعًا على النصيحة المقدمة لنا في العهد الجديد: "افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا" (في 4: 4). فالروحانية الحقة تستعلن خلال الفرح الداخلي الدائم والذي يُعبر عنه بالتسبيح الدائم حتى في أحلك لحظات الظلمة. يليق بنا أن نشكر الله ونسبحه في كل وقت، وفي جميع أحوالنا، في أيام الفرج كما في أيام الضيق، في الصحة والمرض، في الألم والفقر والاضطهاد، حتى في وسط آلام الموت، ففي كل وقت يُظهر الله نعمته في حياة المؤمن. في كل يوم يتلمس الإنسان التقي معالم مراحم الله وبصماتها فيسبح الله تسبيحًا جديدًا. يتمجد الله في حياة المؤمن، ويعتز المؤمن بعمل الله الدائم في حياته، قائلًا مع المرتل: "بالرب تمتدح نفسي" [2]. فإننا إن كنا نرغب في الفرح بالرب ليكن هو فرحنا ومجدنا، الأمر الذي يهب قلوبنا المتألمة سلامًا حقيقيًا.
في غربته، ووسط الحرمان الخارجي، والضغوط الشديدة، يقول داود النبي: "أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي" [1]. فقد عرف المرتل أنه ليس من عمل على الأرض ولا في السماء أشرف ولا أعظم من التسبيح؛ إنه عمل ملائكي!
حينما نسقط في ضيق يلزمنا أن نتذكر معاملات الله معنا في الماضي، ومراحمه غير المنقطعة، فتتحول قلوبنا إلى الفرح والتسبيح، إذ تترجى بثقة ويقين مراحم الله الجديدة.
في ضعفنا البشري يصعب أحيانًا أن نسبح الله وسط آلامنا ونباركه، لكن مسيحنا الذي نزل لأجل الألم قدم تسابيح حمد لأبيه حتى عند شربه الكأس في البستان، وقيل عنه إنه من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الآلام مستهينًا بالخزي (عب 12: 2). وهو وحده قادر بالحق أن يحقق كلمات المرتل هذه. أما نحن فلا نستطيع ما لم نتحد به، فيهبنا شركة حياته المتهللة، لنصير به أشبه بملائكة، نهتف بسان الشكر: "أبارك الرب في كل وقت..."
* يقول المسيح هذا، ليت المسيحي أيضًا يردد ذلك، فأن المسيحي متحد بالمسيح. لقد صار المسيح إنسانًا لهذه الغاية: أن يصير المسيحي ملاكًا، يصرخ: "أبارك الرب..."
يلزمكم أن تباركوه حين يمنحكم عطايا، وتباركوه حين يأخذها منكم، فإن هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ، لكنه لن يأخذ "ذاته" ممن يباركونه.
لا يبارك الرب كل حين إلا الودعاء [2]؛ هذه الوداعة التي علمنا إياها ربنا في جسده ودمه، فإنه حينما بذل جسده ودمه لأجلنا وضع أمامنا وداعته مثالًا.
* كما سبَّح داود الوديع في زمن الضيق: قائلًا: "أبارك الرب في كل وقت" [1]، لم يكف الطوباوي بولس عن شكر الله في كل رسائله. ففي وقت الفرج لم يتوقف عن التسبيح، وفي وقت الشدة كان يمجد الله، عالمًا أن الضيق ينشئ صبرًا، وفي الصبر تزكية، وفي التزكية رجاء، والرجاء لا يُخزي (رو 5: 3).
ليتنا نحن أيضًا تابعي هؤلاء القديسين لا نكف عن الشكر في كل وقت(654).
* ليتكلم ذاك الذي يسكن في قلوبنا على شفاهنا أيضًا. لتخدم ألسنتنا ذاك الذي تخدمه نفوسنا، فنتأهل للقول مع النبي: "أبارك الرب في كل وقت، وفي كل حين تسبحته في فمي"(655).
* من هو ذاك الذي يبارك الرب في كل وقت؟ الإنسان الذي لا تفسده ثروته الطائلة، ولا ترهبه الشدائد. هذا هو السلام الأول والحقيقي أن نكون في سلام مع الله، عندئذ يتحقق أيضًا السلام في داخلنا(656).
* شكرنا لله أهم من تنفسنا...
لكل شيء وقت كما يُعلّم سليمان، وكما أعتقد أنا أيضًا... (أما الشكر ففي كل وقت)(657).
إن كنا قد تمتعنا بالإنسان الجديد على صورة خالقنا فامتلأت قلوبنا تسبيحًا، لزم أن نُعبِّر عما في القلب بالفم واللسان. نشكره بالقلب والفكر واللسان والعمل، فنختبر عذوبة الحياة الجديدة تحت كل الظروف، إذ لا نعرف للتسبيح وقتًا خاصًا، بل هو نبضات قلب الإنسان الداخلي، إن توقفت نفقد شركتنا مع الله حياتنا.
يرى العلامة أوريجانوس أن من يشكر الله أو يسبحه وقت الفرج يكون كمن يرد له دينًا عليه، أما من يمارسه وقت الضيق فيكون كمن صار دائنًا له.
يتحقق التسبيح لله وتمجيده خلال الاتضاع، فبشعورنا بضعفنا الذاتي نتلمس عظمة عمله في حياتنا.
"بالرب تمتدح (تفتخر) نفسي، ليسمع الودعاء ويفرحون.
عظموا الرب معي، وارفعوا بنا اسمه جميعًا" [2-3].
الافتخار أمر طبيعي في حياة الإنسان، إن أساء استخدامه صار فريسي الفكر، أما إن افتخر بضعفاته كما فعل الرسول بولس فينال نعمة الله وقوته، عندئذ يمتدح الله في شخصه وسماته ومواعيده وعهده وأعماله العجيبة..
بالاتضاع والوداعة يدرك الإنسان أن ما ناله من صلاح ليس عن استحقاق، إنما هو هبة إلهية مجانية؛ فيشكر الله على مراحمه التي لا يدركها غير المؤمنين، ويفرح ويمتلئ رجاءً لينال كمال المجد الأبدي.
* لا تُهنئ نفسك عندما تمتدح ذاتك، وإنما تمّجد في الرب، فتستطيع أن ترنم بثقة، قائلًا: "بالرب تمتدح نفسي"(658).
يحذرنا الآباء من إساءة فهم الوداعة أو الاتضاع، فإننا وإن كنا ندرك ضعفنا الذاتي يليق بنا أن نثق في عمل الله الذي يهبنا القدرة على ممارسة غير المستطاع، وكما يقول الرسول بولس: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13).
* احذروا لئلا تهلكوا أنفسكم وأنتم تمارسون مثل هذه الأعمال. يجب ألا تطلبوا الظهور بأكثر ورعًا أو اتضاعًا مما ينبغي أن يكون، لئلا تكونوا ساعين نحو المجد بامتناعكم عنه. لأن كثيرين ممن يخفون عن أنظار كل البشر فقرهم (الاختياري) ومحبتهم وصومهم يرغبون في إثارة الإعجاب بهم من خلال ازدرائهم بتلك الأمور عينها، والغريب
أنهم يسعون نحو المديح بينما يتظاهرون أنهم بعيدون كل البعد عنه(659).
الإنسان المتضع ليس فقط يمجد الله، لكنه يجتذب الآخرين لكي يشتركوا معه في تمجيد اسم الله، إذ يقول المرتل: "عظموا الرب معي، وارفعوا بنا اسمه جميعًا" [3].
الله لا يحتاج إلى من يعظمه أو يرفع اسمه، إنما نحن بروح الاتضاع نتحد معًا لنشارك السمائيين تمجيداتهم وتسابيحهم، فنتمتع بعذوبة خاصة.
4 طَلَبْتُ إِلَى الرَّبِّ فَاسْتَجَابَ لِي، وَمِنْ كُلِّ مَخَاوِفِي أَنْقَذَنِي. 5 نَظَرُوا إِلَيْهِ وَاسْتَنَارُوا، وَوُجُوهُهُمْ لَمْ تَخْجَلْ. 6 هذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ. 7 مَلاَكُ الرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ، وَيُنَجِّيهِمْ. 8 ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. 9 اتَّقُوا الرَّبَّ يَا قِدِّيسِيهِ، لأَنَّهُ لَيْسَ عَوَزٌ لِمُتَّقِيهِ. 10 الأَشْبَالُ احْتَاجَتْ وَجَاعَتْ، وَأَمَّا طَالِبُو الرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ.
يبدأ المرتل في سرد أسباب تسبيحه لله.
"طلبت إلى الرب فاستجاب لي.
ومن جميع مساكني (مخاوفي) نجاني" [4].
اختبر المرتل نجاة عظيمة من كل ضيقاته، فقد كانت مخاوفه عظيمة. لقد قتل جليات الجبار، بطل ملك جّت الذي يقف أمامه الآن كغريب عاجز بلا حيلة، هاربًا وسجينًا. تذكر الفلسطينيون ما فعله بهم، وبدون شك اشتكوه لدى ملكهم. كان كل شيء يبدو مظلمًا أمام عقله وفكره. لكن الرب خلصه من أيدي الملك، وسمح له أن ينطلق إلى حصن وهناك يلتقي بكل عائلته وأصدقائه. على أي الأحوال، الله يخلص بالقليل وبالكثير من فكيّ الأسد ومن سيف الملك.
لقد سمح الله لداود أن يتعرض لمتاعب كي يطلب إلى الله مصليًا، وأحيانًا كان يؤجل الاستجابة حتى تتعاظم حاجته إليه فيصرخ قلب داود، ويعطيه الله دليلًا على استجابته ويخلصه.
لقد اختبر داود النبي أن الله الساكن في السماء هو إله المظلومين والمتألمين، يميل بأذنه ليسمع تنهدات قلبهم الخفية، إذ يقول: "لأنه اطلع من علو قدسه؛ الرب نظر من السماء على الأرض؛ ليسمع تنهد المغلولين" (مز 102: 17).
داود النبي المطرود من أهله ومن شعبه ومن كرسيه (الذي لم يستلمه بعد)، يقف كأسير بل كسجين... لكنه يجد الله الساكن في السماء أقرب إليه من الكل.
"تقدموا إليه واستنيروا؛
ووجوهكم لا تخزى" [4].
لعل ما هو أعظم من النجاة من الضيق هو التمتع بإشراقات الله على نفسه وسط آلامها.
إن تطلعنا إلى العالم بضيقاته أو أفراحه نكتئب ونتحير، أما إن تطلعنا إلى الله نستنير ولا تخزى وجوهنا. وكما يقول الرسول بولس: "نحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد" (2 كو 3: 18).
وسط الآلام نتطلع إلى المصلوب لنشاركه صليبه وننعم بمجد قيامته في داخلنا.
* إذا ما استنرتم، وإذا ما صار ضميركم خالصًا، تبقى الضيقات أيضًا، إذ يبقى ضعف ما دائمًا، حتى يُبتلع الموت إلى غلبة، ويلبس هذا الفاسد عدم فساد. لا بُد لنا من التأديب في هذا العالم، ولا بُد من احتمال بعض المشقات والتجارب. وسيطهّر الله كل شيء، ويخلصكم من كل شيء، ومن كل ضيقة. اطلبوه هو وحده!
* لنقترب إليه ونستنير... لأنه هو النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان آتيًا إلى العالم. بكونه النور لا يمكن أن يخزى، ولا يسمح لمن يستنير (به) أن يُخزى.
"يعسكِر ملاك الرب حول كل خائفيه وينجيهم" [7].
يوجد رأيان في معنى "ملاك الرب". يعتقد كثيرون أنه يعني رسولًا سماويًا مرسلًا لحماية الأبرار، ويقاتل أعداءهم؛ بينما يرى آخرون أن تعبير "ملاك الرب" يشير إلى الرب نفسه الذي نزل إلى الأرض فاديًا ومخلصًا (تك 48: 16؛ خر 23: 20، 23؛ 32: 34؛ قض 13: 15-22؛ ملا 3: 1).
تُرسَل الملائكة لخدمة معينة لحساب خائفي الرب الذين يرثون الخلاص (عب 1: 6-7). إنه من اللائق بنا جدًا أن نفكر في خدمة الملائكة بفكر سليم مفرح، وقد أشار الكتاب المقدس كثيرًا إلى ذلك (2 مل 6: 15-17؛ مز 16: 11؛ لو 16: 22). فإن كان أعداؤنا كثيرين جدًا وأقوياء لكن هؤلاء الرسل السمائيين هم أكثر في العدد وأعظم في القدرة. توجد جماعة بلا حصر متفوقون في القوة يسندوننا(660).
* "غرست كرمًا وسيّجت حوله". من المؤكد أن الرب يدعو النفوس البشرية كرمه، تلك النفوس التي أحاطها بسلطان تعاليمه وحراسة ملائكته(661).
الله في حبه لنا يسكن في وسطنا، بل وفينا، ويقيم ملائكته حراسًا لنا ضد الشر. أرسل ملاكًا ليخرج الرسول بطرس من السجن. ويضرب هيرودس مضطهده فصار يأكله الدود ومات (أع 12).
* إذ كنت أعد نفسي للزواج بابن الملك، بكر كل خليقة، رافقتني الملائكة وخدمتني وقدمت لي الناموس كهدية عرس(662).
* هؤلاء هم الملائكة حراس الأطفال الذين يرون وجه الآب في السماء(663).
* حينما رأت الملائكة ملك الطغمات السمائية يسير في أماكن الأرض، دخلوا الطريق الذي افتتحه، وتبعوا ربهم، وأطاعوا إرادته، ذاك الذي وزعهم على المؤمنين لحراستهم. الملائكة في خدمة خلاصك... إنهم يقولون فيما بينهم: "إن كان قد أخذ (المسيح) جسدًا قابلًا للموت، فكيف نقف نحن مكتوفي الأيدي؟ تعالوا أيها الملائكة لننزل جميعًا من السماء". هذا هو السبب الذي لأجله كانت جموع الطغمات السمائية تمجد الله وتسبحه عند ميلاد المسيح. لقد امتلأ كل موضع بالملائكة(664).
* إن كان ملاك الرب يعسكر حول خائفيه وينجيهم (مز 33: 8)، فيبدو أنه متى اجتمع عدد من الناس لمجد المسيح يكون لكل منهم ملاكه يعسكر حوله، إذ هم خائفوا الرب. كل ملاك يرافق إنسانًا يحرسه ويرشده، وبهذا متى اجتمع القديسون معًا تقوم كنيستان: كنيسة من البشر وأخرى من الملائكة(665).
* أولئك الذين يشير إليهم النص (نش 5: 7) كحرس المدينة هم الأرواح الخادمة المرسلة لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص...
جيد للنفس أن يجدها الملائكة الذين يطوفون حول المدينة (السماوية)(666).
"ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!" [8].
استخدمت هذه العبارة في (عب 6: 5، 1 بط 2: 3) لتصف الجرأة في الإيمان، ولتحث على الدخول إلى الخبرة العملية، فالتذوق لا يقف عند اختبار عَرَضي عشوائي، إنما تقديم البرهان بالاختبار العملي الحيّ.
يدعو المرتل المؤمنين أن يذوقوا وأن ينظروا. والنظر معناه جني ثمار هذا التذوق والتمتع به؛ فلا يمكن لفاقد بصر أن يدعوا أصدقاءه للتمتع بمشاهدة قوس قزح، ولا الأصم أن يحث آخرين على الاستماع إلى الموسيقى.
* إن كنتم لا تفهمون تصيرون أنتم هو الملك أخيش؛ حيث يغير داود ملامحه وينصرف عنكم ويترككم ويذهب في طريقه.
* وكما يقول المرتل، إن ذاق إنسان الرب بالحق، أي إن حمل الله في داخله، فإنه يمتلئ بذاك الذي يعطش إليه ويجوع، كما وعد قائلًا: "أبي وأنا إليه نأتي، وعنده نصنع منزلًا" (يو 14: 23). وإني أظن أن العظيم بولس أيضًا الذي تذوق ثمار الفردوس التي لا يُنطق بها كان يمتلئ مما يتذوقه وفي نفس الوقت كان دائم الجوع إليه(667).
* الآن يقول: "ذوقوا"، لأنه يمكن لمحبة الله أن تنعش النفس لكنها لا تشبع الرغبة، بغض النظر عن مقدار الإيمان أو قدر الاشتياق، فهي تثير العطش أكثر فأكثر إذا ما رشفتها حافة الشفاه. لهذا السبب يقول (السيد) عن نفسه: "مَن يأكلني يعود إليّ جائعًا، ومن يشربني يعود إليّ ظمأنًا" (ابن سيراخ 24: 29)، وذلك بسبب عذوبته التي تثير شهية قوية نحوه، وعذوبة لا تجزع منها النفس عندما تشبع منها(668).
* كل صلاح نملكه هو تذوق للرب...
يصير الناس كاملين عندما يدركون أنهم غير كاملين(669).
* إلى الذين يذوقون وينظرون خلال الخبرة "أن الرب حلو"، يصير هذا التذوق دعوة لمزيد من التمتع. ومن ثم فالذي يقوم أمام الرب على الدوام يختبر هذا الدافع المستمر نحو مزيد من التقدم(670).
كلمات المرتل: "ذوقوا وانظروا ما أعذب الرب" [8] هي دعوة لاختبار الحب الحق. فإن الله هو الحب، من ينله يعيش في الحب الصادق الأبدي؛ ومن يقتني الحب إنما يقتني الله ليثبت في الله والله فيه! لنتقدم إلى الرب، ولنتعرف عليه؛ لنختبره ونراه!
الأشبال بمالها من قوة طبيعية قد تجوع، أما رجال الله المحبين له، الذين يخافونه كأب لئلا يجرحوا مشاعر أبوته الحانية بخطاياهم، لا يعتازون إلى شيء.
"اخشوا الرب يا جميع قديسيه،
فإن الذين يخشونه لا يعوزون شيئًا.
الأغنياء (الأشبال) افتقروا وجاعوا.
إن الذين يبتغون الرب فما يعدمون كل خير" [9-10].
* يقول المزمور: "اخشوا الرب يا جميع قديسيه"... إن كان القديسون الذين يحبون الله يخافونه، فكيف يقول الكتاب إن المحبة تطرد الخوف خارجًا (1 يو 4: 18)؟
يكشف لنا القديس يوحنا عن نوعين من الخوف: أحدهما خوف بدائي، والثاني خوف كامل. الأول يوجد في المبتدئين، ويدعوه البعض "خوف العبيد"، أما الآخر فهو
خوف الكاملين في القداسة، يناله الذين بلغوا إلى مستوى الحب الحقيقي.
واحد يطلب الله خوفًا من العقاب وهذه كما قلنا هي نقطة البداية... والآخر يشتاق إلى الله لأجل محبته له شخصيًا، فهو يحبه ويعرف ما يرضيه. مثل هذا الإنسان يتذوق عذوبة الوجود مع الله، فيخشى لئلا يسقط عنه، يخاف لئلا يُحرم من حضرة الله.
لا يمكن لإنسان أن يبلغ الخوف الكامل ما لم يكن فيه الخوف البدائي، إذ يقول الكتاب: "رأس (بدء) الحكمة مخافة الله" (مز 111: 10)(671).
الأب دوريثيؤس
* يذكر الكتاب المقدس ثلاثة أنواع من الغنى أو الممتلكات: ما هو صالح، وما هو رديء، وما هو ليس بالصالح ولا رديء... فالممتلكات الرديئة تلك التي قيل عنها: "الأشبال احتاجت وجاعت" [10]، "ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم" (لو 6: 24). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). ترك هذا الغنى فيه سمو في الكمال، إذ يقول الرب عن الفقراء (الذين ليس لهم هذا الغنى): "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (مت 5: 3). وجاء في المزمور: "هذا المسكين صرخ والرب استمعه" [6]، وأيضًا: "الفقير والبائس يسبحان اسمك" (مز 74: 21).
الغني الصالح هو ما يمتلكه مقتني الفضائل(672)...
الأب بفنوتيوس
11 هَلُمَّ أَيُّهَا الْبَنُونَ اسْتَمِعُوا إِلَيَّ فَأُعَلِّمَكُمْ مَخَافَةَ الرَّبِّ. 12 مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي يَهْوَى الْحَيَاةَ، وَيُحِبُّ كَثْرَةَ الأَيَّامِ لِيَرَى خَيْرًا؟ 13 صُنْ لِسَانَكَ عَنِ الشَّرِّ، وَشَفَتَيْكَ عَنِ التَّكَلُّمِ بِالْغِشِّ. 14 حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَمَةَ، وَاسْعَ وَرَاءَهَا.
امتاز داود الملك بحبه لشعبه وحنوه عليهم، يتحدث معهم بكونه خاصته وبنيه. كان رجل دولة ورجل حرب وواضع مزامير وموسيقار، لكنه لم يهتم قط أن يعلّم شعبه كيف يستخدمون السيف أو الرمح، ولا كيف يعزفون على القيثارة، ولا يشرح لهم قواعد سياسة الدولة، وإنما أراد أن يعلمهم "مخافة الرب"، بكونها أفضل من كل الفنون والعلوم، بل وأعظم من الذبائح الدموية.
"هلم أيها الأبناء واسمعوني،
لأعلمكن مخافة الرب" [11].
هكذا إذ يتهلل قلب داود النبي، وينفتح لسانه بالتهليل من أجل خلاص الرب العجيب، يشتاق أن يتعلم كل الشعب مخافة الرب ليختبر عذوبة الخلاص. هنا يرى المرتل أن التمتع بمخافة الرب تحتاج إلى تعلم وتدرب؛ وقد استخدم القديس يوحنا الذهبي الفم هذه العبارة ليوضح أن التقوى فن، تحتاج إلى معلم(673).
* اقتناء مخافة الرب تحتاج إلى تعليم... ألا ترون أن الفضيلة تحتاج أن تُعلم (إش 1: 16-17)؟!(674)
يرى القديس أكليمندس الإسكندري أن المتحدث هنا هو ابن داود، المخلص نفسه، الذي يدعو مؤمنيه للاستماع إليه بكونه "المعلم" واهب المعرفة ومعطي الكمال.
* أليس المخلص هو الذي يريد من الغنوسي (المؤمن صاحب المعرفة) أن يكون كاملًا، وذلك كما يقول الآب السماوي نفسه: "هلم أيها الأبناء واسمعوني، لأعلمكم مخافة الرب"؟! فالله لا يريده محتاجًا إلى معونة الملائكة (في التعليم) بل أن يتقبل (التعليم) منه هو، فيتأهل للتمتع بالحماية الإلهية بالطاعة(675).
إن كان الله قد سلّم الشريعة بيد ملائكة (أع 7: 53)، وتحدث معنا خلال الأنبياء والرسل وكهنته، لكننا في الحقيقة نتقبل التعلم منه، بكونه العامل فينا وبنا (مت 23: 9).
يسأل المرتل:
"من هو الإنسان الذي يهوى الحياة؟ ويظن أنه يرى أيامًا صالحة؟" [12] يقول القديس أغسطينوس: [أما يجيب كل واحد منكم، قائلًا: "أنا". هل يوجد بينكم إنسان واحد لا يهوى الحياة؟ أعني لا يرغب فيها! أو لا يتنهد كل واحد ليقتني أيامًا صالحة...؟! ماذا ترغبون؟ الحياة وأيامًا صالحة! انتبهوا واعملوا. "أكفف لسانك عن الشر..."].
أتريد أيامًا صالحة أم ليالٍ شريرة، ليشرق شمس البر في داخلك، فتصير حياتك أيامًا، أو نهارًا بلا ليل، تحمل برّ المسيح وإشراقاته، فلا تجد ظلمة الخطية لها موضعًا فيك.
من يتحد بالمسيح يسوع ربنا لا يعرف الموت، ولا تدخل الظلمة إلى قلبه أو إلى إنسانه الداخلي، لذا يختبر الحياة ويعيش نهارًا مضيئًا، حتى يأتي يوم الرب المنير!
لا يقف المؤمن في سلبية لكن له دوره، يعمل بالسيد المسيح الساكن فيه، فما هو دوره؟
"اكفف لسانك عن الشر،
وشفتاك لا تنطقا بالغش.
حٍد عن الشر" [13-14].
إذ تتقبل فيك كلمة الله يحفظ لسانك عن الشر وشفتاك عن النطق بالغش، إذ لا شركة بين الخير الأعظم والشر، وبين الحق والغش. مسيحنا هو حافظ فمنا وهو باب شفاهنا الحصين، به تتقدس كلماتنا، فلا تخرج كلمة شريرة غاشة.
* لم يعطنا الله اللسان لننطق بالشر، ونثور ونخاصم بعضنا بعضًا وإنما لنرتل بتسابيح الله، وعلى وجه الخصوص "ننطق بالأمور التي تعطي نعمة للسامعين" (أف 4: 29)، الأمور التي تعطي تهذيبًا ونفعًا.
من ينطق بالشر يخزي نفسه أولًا وبعد ذلك من يتحدث معه(676).
* هدئ فكرك أولًا، فإن لم تستطع، فضع حافظًا للسانك(677).
* تأملوا كيف يقطع مصدر الشر خلال مخافة الرب: "اكفف لسانك عن الشر"، أي لا تؤذي مشاعر أخيك بشيء ما ولا تتحدث عنه بالشر، ولا تضايق الآخرين. صن شفتيك عن النطق بالغش، أي لا تنطق بما يخدع قريبك. يضيف بعد ذلك "حد عن الشر"؛ إذ يتحدث أولًا عن خطايا معينة كالنميمة والغش ثم يستمر في الحديث بشكل عام عن جميع الشرور(678).
الأب دوروثيؤس
* يشير بهذه الكلمات إلى المعرفة، بالامتناع عن الشر وفعل الخير، معلمًا أن الكمال هو بالكلمة والفعل معًا(679).
"واصنع الخير" [14]. من يقتني السيد المسيح كمعلم له وكواهب الحياة والأيام الصالحة، لا توقف عند الكف عن الشر، إنما يلزمه أن يمارس الخير فإن "مَنْ يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل فذلك خطية له" (يع 4: 17).
* لا يكفي أن تدير ظهرك للشر فحسب، وإنما يلزم أن تصنع الخير أيضًا.
لا يكفي ألا تعرّي إنسانًا فحسب، وإنما يجب أن تكسو العريان.
إن كنت لا تعرّي إنسانًا فأنت قد حُدت عن الشر، لكنك تصير صانع خير باستضافتك الغريب في بيتك.
"اطلبوا السلام واتبعها" [14]. لم يقف المرتل عند الجانب الإيجابي إنما طالب بالجهاد في طلب السلام، أي في طلب السيد المسيح والجد في إثره.
* "اطلب السلامة واتبعها"... لقد سبقنا السلام نحن جميعًا، لأن ربنا هو سلامنا، وقد قام ثانية وصعد إلى السماء... حينما تقومون أنتم أيضًا يتغير المائت، وتنعمون بالسلام حيث لا يضايقكم أحد. هناك تجدون السلام الكامل بحق، حيث لا يوجد جوع بعد. في هذا العالم يهبكم الخبز سلامًا. انزعوا الخبز تثور الحرب في أعضائكم الداخلية.
* حقًا يستحيل تجنب المنازعات التي تنشب أحيانًا بين الإخوة وبين القديسين، حتى بين بولس وبرنابا (أع 15: 39)، لكنه ليس بالنزاع الذي يشوّه الانسجام، ولا الذي يقتل الحب، لأنكم أحيانًا تضادون حتى أنفسكم ومع ذلك لا تبغضون أنفسكم.
* يليق بابن السلام أن يطلب السلام ويتبعه. الذي يعرف رباطات الحب ويحبها يلزمه أن يمنع لسانه عن شر الخصام(680).
15 عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ، وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ. 16 وَجْهُ الرَّبِّ ضِدُّ عَامِلِي الشَّرِّ لِيَقْطَعَ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ. 17 أُولئِكَ صَرَخُوا، وَالرَّبُّ سَمِعَ، وَمِنْ كُلِّ شَدَائِدِهِمْ أَنْقَذَهُمْ. 18 قَرِيبٌ هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ. 19 كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا الصِّدِّيقِ، وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. 20 يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ. 21 الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو الصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ. 22 الرَّبُّ فَادِي نُفُوسِ عَبِيدِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّكَلَ عَلَيْهِ لاَ يُعَاقَبُ.
إن كان الله كأب سماوي يدعو أولاده للاستماع إليه وتعلم مخافته عمليًا، فيرفضون الشر ويصنعون الخير، مجتهدين في سعيهم نحو السلام، أي في التمتع بالسيد المسيح نفسه سلامنا، فإن الله من جانبه يعطي اهتمامًا شخصيًا بخائفيه الصديقين، خاصة في وقت الضيق. يتطلع بعينيه نحوهم كأنه لا ينشغل بغيرهم، ويميل بأذنيه إلى صرخات قلبهم كأنه قد ترك تسابيح السمائيين وتمجيداتهم ليصغى لمحبيه الذين في ضيقةٍ، يقاوم الأشرار مقاوميهم، أما هم فيحفظ عظامهم ويفدي نفوسهم.
يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية أو أم تدرب طفلها على المشي، تمسك بيديه لتتركهما إلى حين؛ يسقط ويبكي في عتاب، لكن عينيها تتطلعان إليه وأذنيها تستجيبان لصراخه. إنها تترك يديه إلى حين من أجل نموه، كي يتعلم المشي والاعتماد على نفسه. هكذا نحن في حاجة إلى يديّ الله المترفقتين، وفي حاجة أن يبدو كمن يتركنا إلى حين لنصرخ إليه... يكفينا أن يتطلع إلينا ويميل بأذنيه إلى صرخات قلوبنا.
* قد تتباعد أجسادنا عن بعضها بالمسافات، لكن عيني الله تتطلع إلينا دون شك، ما دامت حياتي تستحق أن تتطلع عينا الله إليها، إذ قرأت في المزامير أن عيني الرب على الصديقين(681).
* صلاة المتواضع تبلغ كما من الفم إلى أذن الله(682).
* إذ تجددنا (بالمعمودية) فلنثبت في هذه الحياة الجديدة بالحق، ونعود إلى وقار نفوسنا ونتقدس، فإن عيني الرب على الصديقين وأذنيه مفتوحتان على صلواتهم، لكن وجه الرب ضد فاعلي الشر(683).
الله الصالح يتطلع بعينيه نحو الصديقين ويميل بأذنيه إلى طلبتهم، معلنًا اهتمامه الشخصي بهم وشوقه نحو استجابة طلباتهم... نظرته إليهم وإنصاته لهم يبعثان فيهم الرجاء والحياة. أما صانعوا الشر فيقاومهم وجه الرب. يرون عينيه لهيب نار آكلة، تبيد ذكراهم حتى من على وجه الأرض. بمعنى آخر إن كان الصديقون يتألمون لكنهم يتمتعون بنظرات الله الحانية واهتمامه هنا على الأرض كما في السماء، أما الأشرار فيفقدون ذكراهم هنا ويُحرمون من الأمجاد السماوية. لقد مُحيت أسماء الأشرار مثل قايين وشاول الملك ودقلديانوس. حقًا قد نروي قصص شرهم، لكن برائحتها النتنة؛ ليس من يوقر ذكرهم أو يخشى بطشهم، ولا من يفكر قط أن يُحسب من ذريتهم. بينما يُذكر الملايين هابيل وأخنوح وإبراهيم وإسحق وداود وحنّة والقديسة مريم والرسول بولس إلخ... راجين أن ينظروهم قريبًا في المجد وأن ينضموا إلى شركتهم(684).
لعل أعظم ما يتمتع به الصديقون وسط الضيق إدراكهم استجابة الله لصراخهم، وإحساسهم أنهم موضع اهتمامه، يخلصهم من جميع شدائدهم الروحية والنفسية والجسدية. يعرف احتياجاتهم وأشواقهم ويسد كل أعوازهم، يهبهم نعمة الخلاص، مكللًا حياتهم بالنصرة المستمرة. حقًا يسمح لهم بالضيقات لكنه لن يسد أذنيه عن صوت صلواتهم الجادة المتضعة والمملوءة ثقة فيه. يفرح بصوتهم الواثق فيه، ويفرحون هم باهتمامه بهم. يقترب إليهم جدًا، ويعلن سكناه داخلهم، فتخلص نفوسهم، إذ يقول المرتل:
"الصديقون صرخوا والرب استجاب لهم،
ومن جميع شدائدهم نجّاهم،
قريب هو الرب من المنسحقي القلب،
والمتواضعين بالروح يخلصهم" [17-18].
* "قريب هو الرب..." يتجه الله نحونا، حتى أنه يستجيب لنا قبلما ندعوه. أذناه مفتوحتان لنا، يأخذ صلواتنا مأخذ الجد.
* الله عالٍ، ويليق بالمسيحي أن يكون متواضعًا إن أراد أن يكون الله المتعالي قريبًا منه. عليه من جانبه أن يتضع وينسحق.
اتضعوا فينزل إليكم.
* يقول الرسول: "أعرف أني أتضع" (في 4: 12). الاتضاع بجهل لا يستحق المديح، إنما الاتضاع الحامل وداعةً ومعرفةً للذات هو الذي يُمدح. لأن ثمة اتضاع يُبنى على الخوف، وآخر يقوم على افتقار في الخبرة وعلى الجهل، لهذا يقول الكتاب: "والمتواضعين بالروح يخلصهم"(685).
بانكسار القلب والاتضاع بمعرفة نتمتع بمعيّة الرب وقربه إلى قلوبنا بل وسكناه فيها، كما ننعم بالخلاص. ماذا يعني الخلاص هنا؟
تشعر قلوبنا بالانكسار لأسباب متعددة منها: إدراكي أن خطيتي قد كسرت وصية الرب واهبة الحياة وقاومت عمل الروح الناري في داخلي، أيضًا خطايا أخوتي وجهالاتهم تحزن نفسي، إذ "من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب" (2 كو 11: 29)؛ كذلك تأديبات الله لي أو لأخوتي تكسر أعماقي! أمام هذا الانكسار القائم على معرفة روحية وإيمان بالله شافي منسحقي القلوب يتدخل الله ليغفر خطاياي، ويعمل لأجل بنيان الجماعة، ويدخل بي إلى مجد قيامته. اختبر الحياة الجديدة المُقامة في أعماقي كما في حالة إخوتي! هذا هو الخلاص!
يقدم لنا المرتل وعود إلهية بالتدخل لخلاص أولاد الله، إذ يقول:
"كثيرة هي أحزان الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب" [19].
* هل يقول المرتل: ليكن المسيحيون أبرارًا وينصتون إلى كلماتي فلا يعانون من ضيقات؟ كلا! ليس هذا هو وعده، بل في الواقع يعاني الناس الأشرار من ضيقات أقل، بينما يكابد الأبرار من شدائد أكثر. لكن الأولين يبلغون ضيقة أبدية بعد معاناتهم من ضيقات أقل أو مع عدم معاناتهم منها، ولا نجاة لهم؛ أما الأبرار فينعمون بالسلام الأبدي بعد كثرة الشدائد، ولا يقاسون بعد من أي شر.
يخص الله قديسيه بكثرة الأحزان، لأنها نافعة جدًا لخلاصهم ولمجدهم الأبدي، مؤكدًا لهم خلاص أرواحهم. حقًا قد يخلصهم من المتاعب الجسدية أحيانًا كما فعل مع الثلاثة فتية في أتون النار ودانيال في جب الأسود، لكنه سمح برجم إسطفانوس، وأثناء رجمه كان الشهيد متهللآً بالروح، إذ رأى السموات مفتوحة وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله (أع 7: 56).
يقدم لنا القديس أغناطيوس النوراني مثلًا حيًا لشوق المؤمنين الحقيقيين للدخول في الضيقات والآلام من أجل الرب، إذ كتب إلى أهل روما يمنعهم بقوة من محاولتهم الجادة في إنقاذه من الاستشهاد، وقد جاء في رسالته:
[لتأتِ عليّ كل هذه: النار والصليب، مجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر... لتنصب عليّ كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح(686)].
[القريب من السيفْ هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وإنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه(687)].
"يحفظ الرب جميع عظامهم، وواحدة منها لا تنكسر" [20].
تنطبق هذه العبارة على السيد المسيح حرفيًا كما أوضح العهد الجديد (يو 19: 31-37)؛ وتنطبق بمفهومهما الرمزي على داود النبي وجميع المؤمنين خائفي الرب حيث لا تنكسر عظمة واحدة من هيكل إيمانهم الحيّ. عناية الله بهم فائقة وحنّوه نحوهم عجيب، حتى شعور رؤوسهم محصية أمامه، وواحدة منها لا تسقط بدون إذنه. حقًا قد يسمح لشهدائه أن تتهشم عظامهم المادية، لكن بسماح منه وإلى حين حيث يقومون في مجد أبدي، أما عظام نفوسهم أي هياكل إيمانهم فلا يقدر أحد أن يُحطمها.
* لا يليق أيها الإخوة الأحباء أن نأخذ هذه الكلمات [20] بمعناها الحرفي، لأن عظام الصديق إنما تشير إلى أساسات إيمانه، أي الصبر واحتمال الشدائد.
هذا بالنسبة للصديقين خائفي الرب، أما عن الأشرار فإنهم إذ يُفسدون حياتهم على الأرض يصير حتى موتهم شريرًا، لأنهم ينحدرون إلى مرارة أبدية وحرمان كامل ونهائي من حضرة الله واهب النعم.
ومبغضو الصديق سيندمون" [21].
يقدم لنا السيد المسيح قصة "لعازر والغني" (لو 16: 19-31) ليقارن بين موت الأبرار وموت الأشرار، فيقول: "مات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم؛ ومات الغني أيضًا ودُفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: "يا أبي إبراهيم ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب".
* يُنظر إلى موت الإنسان منتهى الخير أو الشر حسب حالة نفسه، لا حسب ما يُوجه إلى جسده من إهانات أو كرامات في أعين الناس.
* لم يقل إن الموت العنيف شر (كالموت في حادث)، بل موت الأشرار فقط هو شر(688).
* ما أمَّر الدود وما أقسى الظلمة المحزنة التي يرثها الأشرار(689)!
يختم المرتل المزمور بروح التهليل وتمجيد الله مخلص خائفيه، قائلًا:
"الرب ينقذ نفس عبيده،
ولا يندم جميع المتكلين عليه!"
إنه منقذنا من كل مرارة الخطية المهلكة للنفس!
* تبقى نفسي تسبحك،
تسمح لي بالضيق لكي أتعرف على حقيقة ضعفي؛
أتعرف عليك بالأكثر،
أراك تنظر إليّ، وتميل بأذنيك إلى صلاتي.
وكأنه ليس في الوجود غيري.
تهتم بي، وتنصت لتنهدات قلبي الثمينة عندك!
ترسل ملائكتك لتحفظني وتنجيني،
أما أنت فتقترب إلى نفسي وتدخلها كعريس لها!
* في وسط الضيق اختبر عذوبة وجودك فأصرخ:
ذوقوا وانظروا ما أحلى الرب!
* تتحدث معي كأب ومعلم،
تهبني مخافتك الواهبة الحياة فأرى أيامًا صالحة!
تضع حافظًا لفمي وتقيم بابًا حصينًا لشفتيّ.
بك أبغض الشر وأحب الخير،
أطلبك يا سلامة نفسي وأقتفي آثارك أيها الحبيب!
* فترافقني حتى النهاية،
فيكون موتي معك ومع أبرارك،
ولا أموت موت الأشرار!
* كن متكلي،
ورد إيماني،
فأنت وحدك هو رجائي.
_____
(651) Fr. Malaty: 1 Sameul, 1988, p.150 (in Arabic).
(652) Ibid, p. 188.
(653) Stuhlmeuller, p. 193.
(654) Paschal Letters, 5: 3.
(655) Sermon 80: 3.
(656) Ibid 166: 4.
(657) Theological Oration 27: 32: 8
(658) Sermon 137: 2.
(659) Ep. 22: 25.
(660) Plumer, p. 425.
(661) Haexaemeron 5: 6.
(662) Comm. in Cant. 1.
(663) Ibid 2.
(664) In Ez., hom. 1: 7.
(665) Fr. Malaty: Church, House of God, p. 332.
(666) Comm. on Cant., sem. 8.
(667) The beatitude, serm. 4.
(668) Sermon 167: 1.
(669) Ep. 133: 6.
(670) Comm. on Cant., serm. 8.
(671) On the Fear of God.
(672) Cassian. Conf. 3: 9.
(673) In John. hom 58: 5.
(674) In Hebr. hom 8: 10.
(675) Stromata 7: 13.
(676) In Hebr. 1: 4.
(677) Duties of the Clergy 1: 21: 91.
(678) On the Fear of God
(679) Stromata 7: 13.
(680) Treat. 1: 24.
(681) Ep. 150: 2.
(682) Six Treatis on the Behaviour of Excellence.
(683) Paed. 3: 12.
(684) Plumer, p. 4.
(685) Duties of the Clergy 2: 17: 90.
(686) Ad Rom. 5.
(687) Ad Ephes 5: 2; Tral. 7: 2; Philad. 4.
(688) Concerning the Statues 5: 2.
(689) Paschal Epistles 7: 2.
اشترك في الترجمة الدكتور جرجس كامل جرجس كامل يوسف والدكتور نورا العجمي.
← تفاسير أصحاحات مزامير: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57 | 58 | 59 | 60 | 61 | 62 | 63 | 64 | 65 | 66 | 67 | 68 | 69 | 70 | 71 | 72 | 73 | 74 | 75 | 76 | 77 | 78 | 79 | 80 | 81 | 82 | 83 | 84 | 85 | 86 | 87 | 88 | 89 | 90 | 91 | 92 | 93 | 94 | 95 | 96 | 97 | 98 | 99 | 100 | 101 | 102 | 103 | 104 | 105 | 106 | 107 | 108 | 109 | 110 | 111 | 112 | 113 | 114 | 115 | 116 | 117 | 118 | 119 | 120 | 121 | 122 | 123 | 124 | 125 | 126 | 127 | 128 | 129 | 130 | 131 | 132 | 133 | 134 | 135 | 136 | 137 | 138 | 139 | 140 | 141 | 142 | 143 | 144 | 145 | 146 | 147 | 148 | 149 | 150 | 151
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير مزمور 35 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير مزمور 33 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/hfpgy69