St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

269- قال السيد المسيح: "لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ" (مت 5: 39)، فلماذا عندما لطمه خادم رئيس الكهنة اعترض عليه (يو 18: 22)؟ ولماذا عندما لُطِم بولس الرسول بأمر رئيس الكهنة ثار وشتم رئيس الكهنة؟ وهل وصية يسوع هذه تعتبر حبر على ورق لأنها ضد كرامة الإنسان وضد الطبيعة البشرية؟ وهل لو كان السيد المسيح في موقع المسئولية كرئيس دولة أو رئيس حكومة، كان يقبل أن الإنسان يُلطم ويُهان ولا يدافع عنه؟

 

س269: قال السيد المسيح: "لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ" (مت 5: 39)، فلماذا عندما لطمه خادم رئيس الكهنة اعترض عليه (يو 18: 22)؟ ولماذا عندما لُطِم بولس الرسول بأمر رئيس الكهنة ثار وشتم رئيس الكهنة؟ وهل وصية يسوع هذه تعتبر حبر على ورق لأنها ضد كرامة الإنسان وضد الطبيعة البشرية؟ وهل لو كان السيد المسيح في موقع المسئولية كرئيس دولة أو رئيس حكومة، كان يقبل أن الإنسان يُلطم ويُهان ولا يدافع عنه؟

يقول "دكتور محمد توفيق صدقي": "ومن منهم أدار خده الآخر للضاربين (مت 5: 39) وأحب أعداءه؟ أليست هذه التعاليم كلها حبر على ورق، وهيَ في ذلك غلو مزعوم مخالف للعقل والعدل والطبيعة البشرية، وإيجابها في جميع الأحوال نوع إلى المذلة وإلى الفساد بطغيان الأشرار، وبتثبيط همة الأصدقاء وتنفيرهم لمساواتهم بالأعداء فيهملون ولا يبالون" (625).

St-Takla.org                     Divider     فاصل موقع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - أنبا تكلا هايمانوت

ج: 1ــ جاء في شريعة العهد القديم: "لاَ تُشْفِقْ عَيْنُكَ. نَفْسٌ بِنَفْسٍ. عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ. يَدٌ بِيَدٍ. رِجْلٌ بِرِجْل" (تث 19: 21) فكان لهذه الوصية أهميتها في تحجيم الشر في جو سادت فيه شريعة الغاب التي عبَّر عنها لامك لامرأتيه: "اسْمَعَا قَوْلِي يَا امْرَأَتَيْ لاَمَكَ وَأَصْغِيَا لِكَلاَمِي. فَإِنِّي قَتَلْتُ رَجُلًا لِجُرْحِي وَفَتىً لِشَدْخِي. إِنَّهُ يُنْتَقَمُ لِقَايِينَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ وَأَمَّا لِلاَمَكَ فَسَبْعَةً وَسَبْعِينَ" (تك 4: 23، 24)، وقد سادت القبيلة، فالذي يعتدي على أحد أفراد القبيلة فكأنه اعتدى على جميع رجال القبيلة وأهانهم فتنشب المنازعات بين القبائل حتى يفنون بعضهم البعض، وعندما شعر هامان أن مردخاي يستهين به ولا يسجد له لم يكفيه الانتقام من مردخاي بمفرده، ولا مردخاي وأسرته، بل رتب الانتقام من كل شعب مردخاي اليهودي. وقد ارتبطت القبلية بالتعصب الديني، ولاسيما في الأرياف والقرى والنجوع، فإن أخطأ إنسان مسيحي أو توهموا أنه أخطأ، فيا ويل جميع المسيحيين القاطنين في القرية، فتحرق حقولهم ومساكنهم، ويتعرضون للنهب والتهجير.

وقال "القديس أغسطينوس": "فليس من السهل أن تجد شخصًا يرغب أن يرد الضربة بضربة واحدة. ويرد بكلمة واحدة على من أساء إليه بكلمة، فالإنسان يرغب دائمًا في الانتقام بصورة مغالى فيها جدًا وذلك بسبب الغضب والشعور بأن المسيء يجب أن يُعاقَب عقابًا مضاعفًا.

فالشريعة الموسوية التي جاء فيها: "عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ" تحد من الروح السابق لأنها تطالب بألاَّ يزيد الانتقام عن مقدار الضرر الذي أصاب الشخص. هذه الشريعة هيَ بداية السلام، أما السلام الكامل فهو في عدم الإنتقام" (626).

والعهد القديم الذي أعطى شريعة العين بالعين والسن بالسن، حض على التسامح بقدر الإمكان، فجاء في سفر الأمثال: "لاَ تَقُلْ إِنِّي أُجَازِي شَرًّا. انْتَظِرِ الرَّبَّ فَيُخَلِّصَكَ" (أم 20: 22).. " لاَ تَقُلْ كَمَا فَعَلَ بِي هكَذَا أَفْعَلُ بِهِ. أَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ مِثْلَ عَمَلِه" (أم 24: 29).. " إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ خُبْزًا وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ مَاءً. فَإِنَّكَ تَجْمَعُ جَمْرًا عَلَى رَأْسِهِ وَالرَّبُّ يُجَازِيكَ" (أم 25: 21، 22).

 

St-Takla.org Image: They will strike the judge of Israel with a rod on the cheek (Micah 5:1) - "And when He had said these things, one of the officers who stood by struck Jesus with the palm of his hand, saying, “Do You answer the high priest like that?” Jesus answered him, “If I have spoken evil, bear witness of the evil; but if well, why do you strike Me?”" (John 18: 22-23). صورة في موقع الأنبا تكلا: يضربون قاضي إسرائيل على خده (ميخا 5: 1) - "ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفا، قائلا: «أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟» أجابه يسوع: «إن كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردي، وإن حسنا فلماذا تضربني؟»" (يوحنا 18: 22-23).

St-Takla.org Image: They will strike the judge of Israel with a rod on the cheek (Micah 5:1) - "And when He had said these things, one of the officers who stood by struck Jesus with the palm of his hand, saying, “Do You answer the high priest like that?” Jesus answered him, “If I have spoken evil, bear witness of the evil; but if well, why do you strike Me?”" (John 18: 22-23).

صورة في موقع الأنبا تكلا: يضربون قاضي إسرائيل على خده (ميخا 5: 1) - "ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفا، قائلا: «أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟» أجابه يسوع: «إن كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردي، وإن حسنا فلماذا تضربني؟»" (يوحنا 18: 22-23).

2ــ عندما قال السيد المسيح: "مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ"، قصد المعنى الروحي أكثر من المعنى الحرفي، فالإنسان لا يُلطَم على خده الأيمن إلاَّ إذا كان الضارب أعسر أو أن الضارب استخدم ظهر كفه الأيمن. وبحسب ناموس الربيين تعتبر اللطمة بظهر اليد احتقارًا مضاعفًا من اللطمة بكف اليد، وكانت الشريعة الرومانية تُغرَم من يصفع أحدًا على خده بغرامة قدرها 200 دينار، وإذا أثنى يدفع ضعف الغرامة، فاللطم على الوجه من أشد أنواع التحقير. ويقول "ر. ت. فرانس": "واللطم على الخد الأيمن هو الضرب "بظهر اليد" وهو حتى يومنا هذا يُعتبر في الشرق أشنع درجات الإهانة والتحقير. ومن يرتكب هذا كان يُعاقب بغرامة مالية كبيرة جدًا (المشنا). والموقف هنا يُنظر إليه على أنه إهانة وليس إيذاءً بدنيًا، ويمكن أن يعتبر كناحية من نواحي الإضطهاد الديني. ولقد أُستعمل نفس الفعل في (مت 26: 67) عند الإشارة إلى سوء معاملة المسيح " اعتباره مجدّفًا ". والكلمات في هذه الآية تذكرنا بما جاء في (إش 50: 6) من ناحية قبول "العبد" للإهانة والمعاملة السيئة، وهذا ما يطلبه يسوع من تلاميذه بدلًا من رد العدوان أو الجوء إلى القانون" (627). فالسيد المسيح يريد أن يقول لنا حتى لو واجه الإنسان المسيحي إحتقارًا مضاعفًا ينبغي أن لا يحنق على من ضربه وينتقم منه، لأن مقابلة الشر بالشر لن تجلب الخير على الإنسان قط.

ويقول "الأب يوسف": "إن كان خدك الأيمن الخارجي يستقبل لطمة من الضارب فليقبل الإنسان الداخلي باتضاع أن يتقبل الضربة على خده الأيمن، بهذا يحتمل الإنسان الخارجي بلطف، ويخضع الجسد لمضايقات الضارب فلا يضرب الإنسان الداخلي" (628). والحقيقة أنه يوجد ما هو أشد من الظلم، وهو الشعور بالظلم، فيشعر الإنسان أنه في سجن خلف أسوار من الكراهية والبغضة والسعي نحو الانتقام، لذلك أراد السيد المسيح أن يجنبنا هذه المشاعر السلبية، فطلب منا أن نصفح إلى أقصى درجة، حتى أننا نكون مستعدين لتحمل اللطمة التالية.

 

3ــ في مشوار الصليب تحمل السيد المسيح اللطمات والضرب والاستهزاء وخزي البصاق في صبر عجيب ولم يعترض (مت 26: 67، 68)، وهذا ما يؤكد أن السيد المسيح عندما قال للخادم الذي لطمه: "إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي" (يو 18: 23)، فقد أراد أن يسدي النصيحة لذلك الخادم المندفع الذي اغتصب حقًا ليس له، فكل ما يملك هو الشهادة على ما هو خطأ، أما هذا الخادم فقد اغتصب حق القضاء والشرطة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكما علَّم السيد المسيح في الموعظة على الجبل من يتعرَّض للضرب ظلمًا، فأنه هنا يعلَّم الضارب (راجع كتابنا: هناك كنت معه ص131 - 133). ويقول "القديس أغسطينوس": "والمسيح رب المجد، واضع الوصية ومنفذها الأول، عندما لُطِم على خده بواسطة خادم رئيس الكهنة رد قائلًا: "إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي" (يو 18: 23). فهو لم يقدم الخد الآخر ولكن مع ذلك فقد كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع، لا بضرب خده فقط من ذلك العبد، بل وبصلب جسده كله" (629).

ويقول "قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث": "السيد المسيح نفذ الوصية التي أمر بها، ولم يحوّل الخد الآخر فقط، بل قيل عنه في القداس الغريغوري: "خديك أهملتهما للطم ".. ألعل كان هذا تحقيقًا للنبوءة التي قيلت عنه في سفر إشعياء: "بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ" (إش 50: 6).

· كثيرون لطموا السيد، فتركهم يلطمون، وبذل وجهه لا للطم فقط، وإنما للبصاق أيضًا.

· وهكذا ورد في إنجيل متى: "حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ. قَائِلِينَ تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ" (مت 26: 67، 68). وورد في إنجيل مرقس: "فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ. وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ تَنَبَّأْ. وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ" (مر 14: 65). انظر أيضًا (يو 19: 3). وفي كل مرة قيل عنه: "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَــحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ" (إش 53: 7).

· أما عبد رئيس الكهنة الذي لطمه، وهو لا يدري ماذا يفعله، فإن السيد أراد أن ينبهه إلى اندفاعه إلى الخطأ بغير معرفة. فقال له: "إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ.." لم يكن هذا من المسيح دفاعًا عن نفسه، وإنما نصيحة لشخص مخطئ مندفع" (630).

 

4ــ بينما كان الشعب ينتظر المسيا المحرّر السياسي الذي يحررهم من حكم الرومان ويرفعهم فوق شعوب العالم، وإذ بالمسيا ينادي بالتسامح والصفح والمغفرة إلى درجة تحويل الخد الآخر، فكان هذا مصدمة لهم، ورفضوه، إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله، أما المتواضعون فتفهَّموا القصد السامي من هذه الوصية، ويقول "بنيامين بنكرتن": "اللطم على الخد هو أشنع أساليب الإهانة والتحقير (1 مل 22: 24، 1 كو 4: 11) ويجب أن نحتمله بالصبر. وإن كان الظالم لم يكتفِ بلطمة واحدة فليلطم الثانية. انظر ما عمل الرب نفسه فترى أنه يقصد بكلامه هذا أن يعلمنا احتمال الظلم بالصبر (إش 50: 6، مت 26: 27، 1 بط 2: 19 - 23)" (631).

ويقول "متى هنري": "عوضًا عن الانتقام بسبب هذه الإساءة استعد لغيرها واحتملها بالصبر، لا ترد على الشرير بما أساء به إليك، لا تُقِم من نفسك خصمًا له، ولا تنزل معه في ميدان العراك، ولا تقدمه للمحاكمة. ولكن إن كان ضروريًا لحفظ السلام والأمن العام أن يُجازى حسب أعماله فاترك ذلك للقضاء. أما من جانبك أنت فإن أسلم وأحكم طريقة أن تمر على الإساءة مرورًا عابرًا دون أن تتنبه إليها. لم يُكسَر لك عظم ولم يُلحَق به أذى يُذكر فاصفح عن الإساءة وتناساها. وإذ كان المتكبرون الأغبياء يسيئون الظن ويضحكون عليك بسبب ذلك فإن جميع العقلاء يقدّرون موقفك ويعلمون قدرك ويدركون يقينًا بأنك من أتباع المسيح الذي لم يضرب أولئك الذين ضربوه بقضيب على خده مع أنه قاضي إسرائيل (مي 5: 1)" (632). وقال بولس الرسول: "لأَنَّكُمْ تَحْتَمِلُونَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْتَعْبِدُكُمْ... إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَضْرِبُكُمْ عَلَى وُجُوهِكُمْ. عَلَى سَبِيلِ الْهَوَانِ" (2 كو 11: 20، 21).

 

5ــ وقف بولس الرسول يُحاكم فأمر حنانيا رئيس الكهنة الواقفين بجوار بولس أن يضربوه على فمه، فماذا كان رد فعل بولس الرسول؟ هل ثار وغضب وشتم رئيس الكهنة؟ كلاَّ، إنما نطق بنبوة عليه، وعندما علم أنه رئيس الكهنة أسرع بتقديم اعتذاره، ويقول "القديس أغسطينوس": "عندما ضُرِب (بولس) بأمر رئيس الكهنة فقد رد عليه بمحبة، رغم ما يبدو من إجابته أنه غاضبًا، إذ قال: سَيَضْرِبُكَ اللهُ أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ "، فرده هذا يبدو شتيمة، أما حقيقة أمره فهو نبوة. فالحائط المبيض هو الرياء أو التظاهر في مظهر الكهنوت، كما لو كانت هناك قذارة مخبأة في غلاف أبيض. فالرسول احتفظ بالاتضاع بصورة عجيبة، فعندما قيل له: "أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ اللهِ "، أجاب: "لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءًا" (أع 23: 5)، فإجابته هذه تُظهِر مدى الهدوء الذي كان يتحدث به، فيما حسب أنه يتكلم بغضب فقد أجاب بسرعة ولطف، الأمر الذي لا يحدث من شخص غاضب أو معتذر" (633).

 

6ــ يشيد "الدكتور على عبد الواحد" بتعاليم السيد المسيح هذه في التسامح والمغفرة، إلى حد تحمل اللطمة الأولى وتحويل الخد الآخر، ويرى أن هذه الوصية ليست واجبة على عامة الناس، بل على صفوتهم، فيقول: "والقرآن يحث على التسامح والعفو عن الأذى ويجعل ذلك مثلًا أعلى، ويعظّم من أجر فاعله، ولكن لا يوجبه على الناس، لأن هذه المنزلة لا تتاح إلاَّ لصفوة من الخلق، وهم الذين وصلت نفوسهم إلى درجة كبيرة من الصفاء، وروضوها على الخير والإيثار. ولذلك يقرّر مسئولية البادئ (والبادئ أظلم)، ويقيم جزاءه على أساس القصاص والمقابلة بالمثل، حتى لا يرهق الناس عسرًا في أمرهم، وحتى يحيط أرواحهم وأموالهم بسياج من القدسية والحماية، وحتى لا يستهين الفرد بانتهاك حقوق الآخرين وتعدي حدود اللَّه، وفي هذا يقول اللَّه تعالى في كتابه الكريم: "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" (سورة النحل 126). ويقول: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَــى اللَّهِ.." (سورة الشورى 40 - 43)، ويقول: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (سورة فصلت 34، 35).." (634).

كما يقول "الدكتور علي عبد الواحد وافي" أيضًا: "على حين أن هذه الأناجيل تحاول أن توجب على جميع الناس التسامح، وتكاد تفرض على الفرد العفو عما يلحقه من غيره من ضرر وأذى، " فإذا صفعه على خده الأيمن وجب عليه أن يدير له الخد الآخر ليصفعه عليه كذلك، وإذا نازعه أحد في أزاره وادعى ظلمًا أنه له وجب عليه أن يتنازل له عن أزاره وردائه معًا". وهذا، ولا شك، مَثل أعلى للأخلاق الكريمة قد يفعله صفوة من خيار الناس ممن سماهم القرآن "ذوي الحظ العظيم"، ولكن لا يُعقل أن شريعة سماوية تجعله واجبًا على جميع الناس كما تفعل هذه الأناجيل"(635).

إذًا هذه الوصية بحسب شهادة الدكتور علي عبد الواحد ليست حبرًا على ورق، إنما ينفذها ذوي الحظ العظيم، وإن كان يرى أنها فوق مستوى الطبيعة البشرية، فهذا حق، ولكن من يدرك أن المسيح عندما كان يعطي الوصية كان يهب معها القوة والقدرة على تنفيذها، فنحن نسعى نحو الكمال، ونعمة اللَّه تؤازرنا، والإنسان الأمين يستطيع أن يقول مع بولس الرسول: "أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي" (في 4: 13). إن تسامح الشهداء مع جلاديهم كانت أعظم كرازة بالمسيح الذي يهب الإنسان هذه المقدرة وهذا الجبروت في تنفيذ وصية كهذه، فلم يحاولوا مقابلة الحق بالحقد، والضغينة بالضغينة، ولم يحاولوا الانتقام لأنفسهم بالرغم من قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم، وهل ننسى الكتيبة الطبية المصرية بقيادة الشهيد البطل موريس، وكان قوامها ستة آلاف جندي، لم يدافع واحد منهم عن نفسه، بل جميعهم نالوا إكليل الشهادة، فسحقوا إبليس وكل أعوانه، بعد أن عملوا بقول الكتاب: "لاَ تُجَازُوا أَحَدًا عَنْ شَرّ بِشَرّ... إِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ. لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ " (رو 12: 17 - 21).

ووصية تحويل الخد الآخر تذكرنا بالراهب المتواضع الذي أعطاه اللَّه صنع المعجزات، ولكنه كان يبتعد ويهرب من المجد الباطل، وكان ينزل إلى السوق ليبيع السلال، وكانت هناك فتاة قد سكنها شيطان، فالتجأ أبوها إلى هذا الراهب، ولأنه يعلم أن سيستعفى للذهاب معه إلى البيت لشفاء ابنته، طلب منه شراء كل السلال على أن يحملها له إلى المنزل، وبمجرد أن طرق الوالد الباب أسرعت الفتاة بفتح الباب ولطمت الراهب على خده، وإذ به سريعًا ما حوَّل الخد الآخر، فهرب الشيطان ونالت الفتاة الشفاء، وفي الإسكندرية في السبعينات أخذنا بركة "بابا صادق" الذي كان يسكن في شارع سوق شيديا بالإبراهيمية وكان يتردد على كنيسة مارجرجس اسبورتنج، وكان له باعٍ عظيم في الأمور الروحية، وعاش حياة البتولية، وذات مرة اشتهى تنفيذ هذه الوصية، وفي أحد المرات تعرَّض للطمة من أحد الأشرار، فتحملها وأكمل طريقه.

 

7ــ لا تمنع المسيحية الإنسان من الدفاع عن النفس، ويقول "دكتور وليم إدي": "والشريعة الطبيعية وسائر الشرائع سواء إلهيَّة أو بشرية تسمح للإنسان بأن يحامي عن شخصه وعن عائلته عندما تكون حياته أو حياتهم في خطر. فلا غرو أن المسيح يعلمنا هنا مبدأ جوهريًا وهو أن أفضل طريق لمقاومة شر العالم ليس المدافعة القوية بل احتماله بالحكمة المسيحية. فإن من يحتمل الظلم إكرامًا للمسيح ولأجل غايات روحية يُظهِر القوّة الحقيقية لا الجبن والضعف. وأما الذي يبادر إلى الانتقام ممن تعدى عليه، والسريع الغضب ومُحب الخصام والغيور في طلب كل حقوقه فروحه مغاير لروح المسيح ويمدحه العالم لا المسيح، بخلاف ذاك الذي يحتمل الإهانة بالصبر لأجل اسم المسيح فأنه سيُجازى بإكرام أبدي" (636).

وأيضًا الإنسان المسيحي لا يتخاذل أبدًا في الدفاع عن الوطن، وبذل كل ما هو رخيص ونفيس، ويجود بدمائه رخيصة من أجل تراب الوطن.

 

8ــ جاءت وصية السيد المسيح في تحويل الخد الآخر لجموع الشعب ليحل التسامح والسلام في المجتمع، ولم يوجهها للساسة والقضاة الذين يقتصون من المخطئين، بل أن السيد المسيح عندما رأى اليهود يدنسون الهيكل: "فَصَنَعَ سَوْطًا مِنْ حِبَال وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُـمْ" (يو 2: 15). ويقول "الدكتور القس صموئيل حبيب": "لكننا، ونحن نناقش آراء الناقدين والمحللين، لابد لنا أن ندرك لمن تحدث السيد المسيح؟ ولمن كانت نصائحه، ففي الغالب لم يكن يتحدث للساسة في شئون الدول، بل كان يتحدث إلى عامة الشعب في شئون العلاقات الإنسانية العامة. وهذا يعطينا مضمون الرسالة ومجال تطبيقها...

ومما لا جدال فيه، أن السيد المسيح فتح أبوابًا لم تكن مطروقة قبله، وأعلن ضرورة وجود مجال للتسامح والمحبة اللانهائية. وقد تكون هناك ظروف تسمح بتطبيقها، وظروف أخرى تحتاج لأسلوب آخر، ولكن السيد المسيح فتح بابًا جديدًا للفكر والسلوك. ولو أننا لاحظنا، لكان من الواضح أن أسلوب السيد المسيح في سلوكه يتشابه مع ما نادى به.

ويسجل التاريخ كيف أن كثيرين عبر التاريخ المسيحي قد مارسوا تعاليم المسيح، وانتصروا ولم تكن الممارسة بالنسبة لهم هزيمة أو تحقير أو إقلالًا من قدرهم. فالعفو عن المقدرة، نجاح وقوة شخصية، أعظم من الانتقام والتسامح عند المارسة، قدرة أعظم من الهجوم والطعن" (637).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(625) نظرة في كتب العهد الجديد ص144.

(627) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل متى ص131، 132.

(630) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس ص131، 132.

(631) تفسير إنجيل متى ص88.

(632) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص162.

(634) الأسفار المقدَّسة في الأديان السابقة ص103.

(635) الأسفار المقدَّسة في الأديان السابقة ص104.

(636) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص74، 75.

(637) الموعظة على الجبل شريعة أم طريق حياة ص102.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/269.html

تقصير الرابط:
tak.la/5hzamdv