St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

615- كيف يشبّه السيد المسيح اللَّه بقاضي الظلم قاسي القلب المتصلّف (لو 18: 2)؟ وإذا كان الفريسي ذكر حقائق في صلاته (لو 18: 11، 12) فلماذا رُفضَت صلاته بينما قُبلت صلاة العشار الخاطئ؟

 

س615: كيف يشبّه السيد المسيح اللَّه بقاضي الظلم قاسي القلب المتصلّف (لو 18: 2)؟ وإذا كان الفريسي ذكر حقائق في صلاته (لو 18: 11، 12) فلماذا رُفضَت صلاته بينما قُبلت صلاة العشار الخاطئ؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: 1- كيف يشبّه السيد المسيح الله بقاضي الظلم قاسي القلب المتصلّف (لو 18: 2)..؟ ذكرنا مرارًا وتكرارًا أن المَثل لا يُطابق الواقع مطابقة تامة في جميع جوانبه وتفصيلاته، إنما الهدف من المَثل تركيز الضوء على حقيقة معينة فيأتي المَثل كوسيلة إيضاح يشرحها ويبسطها، فهناك وجه شبه قوي بين الحقيقة والمَثل، فيساعد المَثل على فهم هذا الجزء المتشابه. وفي هذا المَثل ليس وجه الشبه المقصود التشابه بين اللَّه وقاضي الظلم، بل هنا نلاحظ أنه يوجد تضاد بين اللَّه كلي العدالة وبين هذا القاضي الذي لم يقم العدل إلاَّ تحت إلحاح الأرملة المظلومة، فيقول: "لأَجْلِ أَنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ تُزْعِجُنِي أُنْصِفُهَا لِئَلاَّ تَأْتِيَ دَائِمًا فَتَقْمَعَنِي" (لو 18: 5) وكلمة " تَقْمَعَنِي" في الأصل اليوناني تحمل معنى الأذى، فالمعنى الحرفي يعني: "ضربة تسبب سوادًا حول العينين" (راجع القس ليون موريس -التفسير الحديث للكتاب المقدَّس- العهد الجديد. إنجيل لوقا ص280) كما يعني فعل " تَقْمَعَنِي" أيضًا: "تلطمني تحت عيني" أو " تسوّد وجهي" (راجع الدكتور القس إبراهيم سعيد - شرح بشارة لوقا ص436)، وفعل " تَقْمَعَنِي" كذلك هو نفس الفعل الذي استخدمه بولس الرسول في قوله: "أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ" (1 كو 9: 27). ويبدو أن قاضي الظلم هنا ليس من شعب اللَّه إنما هو أممي وثني، لأن اليهود لم يلجأوا في حل مشاكلهم إلى القضاء المدني الروماني، إنما كانوا يلجأون إلى الشيوخ منهم، فهذه الأرملة اضطرَّت للجوء إليه، وكان هذا القاضي: "لاَ يَشَاءُ إِلَى زَمَانٍ" أن ينصف هذه الأرملة، ربما كانت أوراق الدعوى غير مُكتملة من جهة الشكل القانوني، وربما كان يأمل أن يتلقى منها رشوة. لهذا نجد الفارق شاسع بين اللَّه وقاضي الظلم المتصلّف، وبالطبع ليس هذا هو هدف المَثل.

St-Takla.org Image: The Parable of the Unjust Judge (the Parable of the Importunate Widow, the Parable of the Persistent Widow): "Then He spoke a parable to them, that men always ought to pray and not lose heart, saying: “There was in a certain city a judge who did not fear God nor regard man. Now there was a widow in that city; and she came to him, saying, ‘Get justice for me from my adversary.’ And he would not for a while; but afterward he said within himself, ‘Though I do not fear God nor regard man, yet because this widow troubles me I will avenge her, lest by her continual coming she weary me.’” Then the Lord said, “Hear what the unjust judge said. And shall God not avenge His own elect who cry out day and night to Him, though He bears long with them? I tell you that He will avenge them speedily. Nevertheless, when the Son of Man comes, will He really find faith on the earth?”" (Luke 18: 1-8) - from: Christ's Object Lessons, by Ellen G. White, 1900. صورة في موقع الأنبا تكلا: مثل الأرملة المثابرة/قاضي الظلم/القاضي الظالم: "وقال لهم أيضا مثلا في أنه ينبغي أن يصلى كل حين ولا يمل، قائلا: «كان في مدينة قاض لا يخاف الله ولا يهاب إنسانا. وكان في تلك المدينة أرملة. وكانت تأتي إليه قائلة: أنصفني من خصمي! وكان لا يشاء إلى زمان. ولكن بعد ذلك قال في نفسه: وإن كنت لا أخاف الله ولا أهاب إنسانا، فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني، أنصفها، لئلا تأتي دائما فتقمعني!». وقال الرب: «اسمعوا ما يقول قاضي الظلم. أفلا ينصف الله مختاريه، الصارخين إليه نهارا وليلا، وهو متمهل عليهم؟ أقول لكم: إنه ينصفهم سريعا! ولكن متى جاء ابن الإنسان، ألعله يجد الإيمان على الأرض؟»" (لوقا 18: 1-8) - من كتاب دروس المسيح الموضوعية، إلين ج. وايت، 1900 م.

St-Takla.org Image: The Parable of the Unjust Judge (the Parable of the Importunate Widow, the Parable of the Persistent Widow): "Then He spoke a parable to them, that men always ought to pray and not lose heart, saying: “There was in a certain city a judge who did not fear God nor regard man. Now there was a widow in that city; and she came to him, saying, ‘Get justice for me from my adversary.’ And he would not for a while; but afterward he said within himself, ‘Though I do not fear God nor regard man, yet because this widow troubles me I will avenge her, lest by her continual coming she weary me.’” Then the Lord said, “Hear what the unjust judge said. And shall God not avenge His own elect who cry out day and night to Him, though He bears long with them? I tell you that He will avenge them speedily. Nevertheless, when the Son of Man comes, will He really find faith on the earth?”" (Luke 18: 1-8) - from: Christ's Object Lessons, by Ellen G. White, 1900.

صورة في موقع الأنبا تكلا: مثل الأرملة المثابرة/قاضي الظلم/القاضي الظالم: "وقال لهم أيضا مثلا في أنه ينبغي أن يصلى كل حين ولا يمل، قائلا: «كان في مدينة قاض لا يخاف الله ولا يهاب إنسانا. وكان في تلك المدينة أرملة. وكانت تأتي إليه قائلة: أنصفني من خصمي! وكان لا يشاء إلى زمان. ولكن بعد ذلك قال في نفسه: وإن كنت لا أخاف الله ولا أهاب إنسانا، فإني لأجل أن هذه الأرملة تزعجني، أنصفها، لئلا تأتي دائما فتقمعني!». وقال الرب: «اسمعوا ما يقول قاضي الظلم. أفلا ينصف الله مختاريه، الصارخين إليه نهارا وليلا، وهو متمهل عليهم؟ أقول لكم: إنه ينصفهم سريعا! ولكن متى جاء ابن الإنسان، ألعله يجد الإيمان على الأرض؟»" (لوقا 18: 1-8) - من كتاب دروس المسيح الموضوعية، إلين ج. وايت، 1900 م.

ومن الأدلة على أن هذا المَثل لا يطابق الواقع في جميع الجوانب، ما يلي:

أ– هذه الأرملة لا علاقة لها بقاضي الظلم، بل هيَ غريبة عنه، أما نحن فأبناء اللَّه وموضع حبه.

ب– ظلت هذه الأرملة تلح على القاضي رغم أنه صدها أكثر من مرة، بينما دائمًا اللَّه يقبلنا ويفتح أحضانه لنا ولا يصدنا: "وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا" (يو 6: 37). وقد تكون استجابته لصلواتنا في عدم الاستجابة لطلبتنا لأنها لا تناسبنا على الإطلاق، أو لأنها لا تناسبنا الآن.

جـ- كانت هذه الأرملة لا سند لها ولا شفيع، أما نحن لنا شفيع كفاري (1 تي 2: 5، 1 يو 2: 4) ولدينا شفاعات الملائكة والشهداء والقديسين التوسلية تسندنا.

د– لم يكن لدى هذه الأرملة المواعيد التي تشجعها على أن تقرع باب قاضي الظلم مرة ومرات، أما نحن فلنا المواعيد الإلهيَّة التي تضمن لنا الاستجابة: "ادْعُنِي فِي يَوْمِ الضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي" (مز 50: 15).

هـ- لم يكن متاحًا لهذه الأرملة لقاء القاضي في أي وقت تشاء، بل كانت تنتهز فرصة خروجه أو عودته من أو إلى بيته، بينما أبواب السماء مفتوحة أمامنا ليل نهار.

و– إلحاح الأرملة وإصرارها على أن تنال حقها لم يكن مدعاة سرور للقاضي، بينما إلحاحنا وصلواتنا بلجاجة مدعاة سرور لأبينا السماوي.

فهدف المَثل الواضح وبيت القصيد هو التشابه بين إلحاح هذه الأرملة وتوسلها وبين اللجاجة في الصلاة. فالهدف هنا هو الصلاة كل حين بلا ملل. إلحاح الأرملة المستمر مرات ومرات وتوسلاتها التي لا تنقطع لقاضي الظلم لينصفها ونجاح مساعيها، يُعطينا المَثل الحي لكي نُصلي ونقرع باب المراحم الإلهيَّة مرة ومرات إلى أن تُعلَم طلبتنا لدى اللَّه، وهذا ما حدى ببولس الرسول إلى التأكيد على الصلاة الدائمة كمنهج ثابت للحياة الروحية: "مُواظِبِينَ عَلَى الصَّلاَةِ" (رو 12: 12).. " مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ" (أف 6: 18).. " وَاظِبُوا عَلَى الصَّلاَةِ سَاهِرِينَ فِيهَا بِالشُّكْرِ" (كو 4: 2).. " صَلُّوا بِلاَ انْقِطَاعٍ" (1 تس 5: 17).

2- إذا كان الفريسي ذكر حقائق في صلاته (لو 18: 11، 12) فلماذا رُفضت صلاته بينما قُبلت صلاة العشار الخاطئ..؟ نعم ما ذكره الفريسي من أعمال كان يعملها هذه حقائق، ولم تُرفض صلاته من أجل أعماله الصالحة، إنما رُفضت صلاته لعدة أساب، مثل:

أ– الكبرياء والتفاخر بالأعمال أمام الناس كقول السيد المسيح عن الفريسيين: "وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ" (مت 23: 5). وليس فقط أمام الناس بل أمام اللَّه أيضًا، وتغافل الفريسي الوصية: "مَتَى فَعَلْتُمْ كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا" (لو 17: 10). فمن المفترض أن الإنسان عندما يقف للصلاة يشعر أنه يقف في الحضرة الإلهيَّة، والنور الإلهي يكشف للإنسان ضعفاته وخفاياه فينسحق أمام اللَّه ويطلب المراحم الإلهيَّة، هكذا كانت مشاعر العشار، بل مشاعر بولس الرسول: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا" (1 تي 1: 15). أما الفريسي فدائمًا يتباهي بأعماله وصلواته أمام الناس وأمام اللَّه، وهناك صلاة كان يصليها "ر. نيهونيا" R. Nehunia تماثل صلاة الفريسي: "أشكرك يا سيدي الرب، لأنك جعلتني بين أولئك الذين يجلسون في (بيت التعليم) ولم تجعلني من بين أولئك الذين يجلسون في زوايا (الشوارع)، لأني أستيقظ مبكرًا، وهم أيضًا يستيقظون مبكرًا، لكني أستيقظ مبكرًا على كلمات التوراة وهم يستيقظون مبكرًا على توافه الكلم. إني أعمل وهم يعملون، بيد أني أعمل وأنال مكافأة وهم يعملون ولا يتسلمون. أنا أجرى وهم يجرون، إلاَّ أني أجرى من أجل العالم الآتي وهم يجرون إلى هوة الهلاك"(381).

ب- تركزت صلاة الفريسي حول ذاته: "أنا".. "إني".. "أصوم".. "أعشر" ويقول السيد المسيح: "فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هكَذَا..". ويقول "القديس باسيليوس الكبير": "صلى الفريسي مع نفسه وليس مع اللَّه لأن خطية الكبرياء ردته إلى ذاته" (382).. عوضًا أن يصلي للَّه، وإذ فاضت أنانيته، فظل يخبر اللَّه بصلاحه ويحدثه عن فضائله: "أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ". اعتمد على بره الذاتي وليس على المراحم الإلهيَّة، كان مكتفيًا بذاته مُعتمدًا على أعماله الصالحة مُعتقدًا أنه بلا خطية، وتغافل أن البر الذاتي من المستحيل أن يخلص الإنسان، لأن " الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو 3: 12). شعر أنه بار بلا خطية، وتغافل أنه ليس مولود امرأة بلا خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض، ولو أن بر الإنسان يخلص الإنسان ما كان هناك داعي للتجسد والفداء... ارتفع إلى الهيكل ليرفع صلاته إلى السماء، ولكن إذ سقط في التفاخر بأعماله أمام اللَّه هبطت صلاته عليه، فأنها صلاة مرفوضة... ظن أنه يداين اللَّه بأعماله الصالحة، ولم يُدرك الهدف من الصوم والعشور، وأن الإنسان عندما يصوم فلكيما يقدَّس اللَّه في جسده، وعندما يقدم العشور فإنه يقدس اللَّه في أمواله وممتلكاته... حقًا أن هذا الفريسي وقف ليُصلي لكنه لم يطلب شيئًا من اللَّه، ولهذا فهو لم ينل شيئًا من اللَّه... عجبًا أن الفريسي الممدوح والمكرّم من الشعب رفع نفسه فهوى إلى أسفل، أما العشار المحتقر والمرذول من الشعب عندما وضع نفسه ارتفع " لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ" (لو 14: 11).

جـ- هذا الفريسي في صلاته احتقر الآخرين، وخص بالذكر العشار المنكسر الواقف من بعيد في تذلل كامل يلتمس المراحم الإلهيَّة، فنجده يصلي: "أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ" (لو 18: 11). وكأنه أعلّم من اللَّه بالأمور، وأنه يُعلْم اللَّه بما لا يعلمه، وهل قوله هذا يُحسب صلاة؟!! حقًا أنه صعد إلى الهيكل ليُصلي، لكنه للأسف لم يُصلي، إنما نصَّب نفسه ديانًا للآخرين، مفترضًا في العشار كل المساوئ والنقائص، وسواء ما قاله عن العشار حق أو باطل، لكن ما كان يجوز له أن ينصّب نفسه ديانًا عوضًا عن اللَّه. يقول "القديس دوروثيوس": "عندما كان الفريسي يُصلي ويشكر اللَّه من أجل فضائله لم يكذب بل نطق بالحق، ولم يُدَن من أجل هذا... لكنه عندما إلتفت نحو العشار وقال: "أَنِّي لَسْتُ... مِثْلَ هذَا الْعَشَّار" ارتكب الإدانة" (383).

ويقول "وليم باركلي" عن صلاة الفريسي: "1- لا يقدر متكبر أن يصلي، لأن باب السماء منخفض جدًا بحيث لا يستطيع أن يجتاز منه إلاَّ من يسجد على ركبتيه ويصرخ قائلًا: "لا يوجد مخبأ أختبئ فيه من فرط ذنوبي وخجلي يا حمل اللَّه، ولا يوجد ما يسترني غير اسمك. ولا رجاء لي سواك في السماء وفي الأرض"، ويقول في أعماق قلبه مع قايين: "ذنبي أعظم من أن يحتمل".

2- لا يقدر من يحتقر الآخرين أن يُصلي، كما لا يمكن أن نرفع أنفسنا فوق الآخرين في الصلاة... نعم فكلنا من جمهور الخطاة المتألمين، من البشر المحزونين وجميعنا أمام عرش رحمة اللَّه.

3- إن الصلاة الحقيقية تأتي من مقارنة حياتنا بحياة اللَّه له المجد... ليس السؤال: هل أنا صالح مثل أقراني؟ بل السؤال هو: هل أنا صالح مثل اللَّه" (384).

← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.

 

وبينما رُفضت صلاة الفريسي فإن الله قَبِل صلاة العشار لعدة أسباب، مثل:

أ– شعوره القوي بأنه في الحضرة الإلهيَّة، فيقول السيد المسيح: "وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ". " فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ" لأنه شعر أنه غير مستحق أن يقترب من اللَّه القدوس العالي، فوقف بعيدًا وكأنه أبرص بمرض الخطية فلم يجرؤ أن ينظر نحو اللَّه، أو تلتقي عيناه بعيني اللَّه. وقف في اتضاع وانسحاق بعيدًا أما الفريسي فاحتل مكان الصدارة في الهيكل. يقول "القديس أُغسطينوس": "وقف العشار من بعيد لكنه بالحقيقة كان قريبًا من اللَّه. باحساس ضميره كان بعيدًا لكن بتقواه اقترب" (385).

ويقول "القديس كيرلس الكبير": "يقول أن العشار "انتصب بعيدًا" لا يجرؤ أن يرفع عينيه نحو السماء، إذ ترى كيف لا يجرؤ على الكلام. أن ضميره كان يوبخه، كان خائفًا أن يراه اللَّه، لأنه لم يعمل بالشريعة، ولم تتصف حياته بالعفة والطهارة. أو ترى كيف كان يُوبَخ بوقوفه بعيدًا. فهو لا يخفي أنه كان أفين الحياة، أما الفريسي الأحمق فانتصب مزهوًّا ورفع عينيه بقمة شامخًا بأنفه ومعتزًا بنفسه. الآخر (العشار) خجل من تصرفه، وخاف من قاضيه، وضرب صدره، واعترف بجرمه فكشف عن مرضه للطبيب، وصلى من أجل أن ينال الرحمة... ما هيَ النتيجة؟ فلنسمع ما يقوله القاضي " إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ" (تفسير الإنجيل لوقا 120)" (386).

ب- شعوره القوي بجرم خطاياه جعله يقرع صدره، ولسان حاله يقول: "الويل لي أنا الخاطئ الأثيم الذي أحزنت قلب اللَّه بخطاياي وشروري وقساوة قلبي".

جـ- شعوره بأنه مديون للعدل الإلهي، وأنه عاجز تمامًا عن سداد ديونه، فسبقت آناته وتأوهاته كلماته فلم ينطق إلاَّ بأربع كلمات: "اللّهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ"، وعبارة " اللّهُمَّ ارْحَمْنِي" في الأصل اليوناني تحمل معنى "اللَّه أدفع عني ديني" أو "اللَّه أصنع لي فداءً". وعبارة " أَنَا الْخَاطِئَ" بها إقرار كامل بحقيقة خطاياه، وبينما صلى العشار " اللّهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ" جاءت صلاة الفريسي بمعنى: "اللهم أشكرك لأني بار". ويقول "مارأفرام السرياني": "كان كل ما قاله الفريسي في صلاته دليلًا ساطعًا على إعجاب بالنفس، أما جابي الضرائب فتكلم بعد أن أقلع عن كبريائه، فكان اعترافه بخطاياه مُرضيًّا للَّه أكثر من تباهي الفريسي بحسناته. الاعتراف بالخطايا أصعب من الاعتراف بالبر، واللَّه يرى الذين يحملون أحمالًا ثقيلة. كان جابي الضرائب يحمل أحمالًا أثقل من أحمال الفريسي، فنزل إلى بيته مبرَّرًا، لأنه كان متواضعًا. وأما الفريسي فلم يبرَّر. كان الفريسي مذنبًا، فأضافت صلاته شرًا إلى شرٍ، لكن الرب طهَّر جابي الضرائب من شرّه، وقد أثارت صلاة الفريسي غضب اللَّه، غير أن صلاة جابي الضرائب كانت فاعلة" (تفسير الإنجيل الرباعي لتاتيان 24)" (387).

ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف عام الدراسات القبطية والبحث العلمي: "أما العشار فلم يقف في صدر الهيكل رافعًا رأسه في كبرياء واستعلاء كما فعل الفريسي كي يراه الجميع. وإنما انزوى في مكان بعيد عن أعين الناس كي لا يراه أحد، وهو -إذ هو عالم بخطاياه يعترف بها شديد الخجل منها- كان يشعر بأنه غير مستحق أن يقف في أي مكان في بيت اللَّه الطاهر القدوس. ومن ثمَّ لم يجرؤ -وهو في إستخفائه وإستحيائه وتذلّـله- حتى على أن يرفع عينيه إلى السماء، وإنما أخذ يقرع صدره في لوعة النادم المستغفر، وفي ضراعة الخاطئ المقرّ بخطاياه، المتوسل إلى اللَّه أن يرحمه من عواقب تلك الخطايا، وأن يعفو عنه، بعد أن ندم وتاب.." (388).

وبينما كان الفريسي في قمة الكبرياء نجح العشار أن يحتل قمة الاتضاع، وبلا شك فإن الاتضاع دائمًا يكسب الجولة، يطرح الكبرياء خارجًا، والعشار باتضاعه نال الشفاء الكامل، وخرج معافى مبرَّرًا من خطاياه، "مبرَّرًا" وليس "بارًا" لأن البار هو من لا يفعل الخطية، أما العشار الذي ارتكب جمة من الخطايا فقد نال التبرير من خطاياه، إذ حمل السيد المسيح عقاب هذه الخطايا على جسده على الصليب. وقد شبَّه القديس يوحنا الذهبي الفم الفريسي وكأنه يركب مركبة يجرها الكبرياء مع البر الذاتي، بينما العشار يركب مركبة يجرها الاتضاع مع الخطية، فتحطمت مركبة الفريسي بينما نجت وارتفعت مركبة العشار (راجع القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا ص460). كما يقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "لأنه من كان أشر من العشار، ومع ذلك إذ كانت روحه متواضعة ودعى نفسه خاطئًا، وهو بحق خاطئ، إلاَّ أنه سما على الفريسي الذي كان له أن يتكلم عن أصوامه ودفع العشور... لقد نُزعت الشرور عن العشار، إذ أُنتزعت منه أم كل الشرور، أي المجد الباطل والكبرياء... أما الفريسي فتقدم متهمًا العالم كله جهرًا، حاسبًا نفسه أفضل من جميع البشر... وبهذا تخلف عن الركب كله. وكما أن السفينة إن جرت كثيرًا بسبب الأمواج غير المحصيّة والعواصف الشديدة، تتحطم على الصخور في داخل المينا وتفقد كل ما تحمله من كنوز، هكذا فعل الفريسي، إذ قدم أصوامًا، وصنع بفيض فضائله، إلاَّ أنه لم يحكم لسانه، فتحطمت نفسه داخل الميناء، ورجع إلى بيته بعد الصلاة -أي في داخل الميناء- وقد أصابه دمارًا عظيمًا، وبدلًا من أن ينال نفعًا أدركه التحطيم!!" (389).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(381) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص281.

(382) أورده القس أنجيلوس جرجس - يوميات مع كلمة الحياة - إنجيل لوقا، ص399.

(383) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص461، 462.

(384) ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص293، 294.

(385) المرجع السابق، ص462.

(386) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص434.

(387) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص434.

(388) الإنجيل حسب القديس لوقا - ترجمة لجنة قداسة البابا كيرلس السادس، ص400.

(389) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص461.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/615.html

تقصير الرابط:
tak.la/3q79hws