St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

560- كيف تسير العذراء مريم مع يوسف النجار مسيرة يوم كامل، دون مبالاة بطفلهما (لو 2: 44)؟ أو كيف تقلق العذراء على ابنها (لو 2: 48) وهيَ تعلم أنه اللَّه، وهل يقلق المخلوق على الخالق؟ وهل هذه القصة (لو 2: 41-50) مدسوسة على الإنجيل، وليست حقيقية؟

 

س560: كيف تسير العذراء مريم مع يوسف النجار مسيرة يوم كامل، دون مبالاة بطفلهما (لو 2: 44)؟ أو كيف تقلق العذراء على ابنها (لو 2: 48) وهيَ تعلم أنه اللَّه، وهل يقلق المخلوق على الخالق؟ وهل هذه القصة (لو 2: 41-50) مدسوسة على الإنجيل، وليست حقيقية؟

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ج: 1- كيف تسير العذراء مريم مع يوسف النجار مسيرة يوم كامل، دون مبالاة بطفلهما (لو 2: 44)..؟ انفرد القديس لوقا بذكر هذا الموقف الوحيد الذي لم تسجله الأناجيل الأخرى، فهو الموقف الوحيد الذي ذُكر بين ميلاد يسوع وبين معموديته من يوحنا المعمدان، سبق هذا المشهد اثني عشر سنة من الصمت العميق، ولحقه ثمانية عشر عامًا من السكوت الرهيب، وفي هذا المشهد سجل القديس لوقا أول عبارة ذكرتها الأناجيل عنه: "لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي. أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي" (لو 2: 49) معلنًا عن عنوان رسالته. كان الصاعدون إلى أورشليم يتحركون في قوافل ضخمة خوفًا من السطو المسلح، وكانت النساء يسرن في المقدمة مع الأطفال الصغار، والرجال في نهاية القافلة لتكون أعينهم على نسائهم، وكان الفتيان ينتقلون من الأمام للخلف والعكس، ويصف "الدكتور القس إبراهيم سعيد" هذا المشهد فيقول: "وكان هذا في منتصف شهر نيسان (أبريل) وكانت الطبيعة وقتئذ في عنفوان قوتها، والحقول في ازدهار خضرتها، والزهور في ريعان زهوتها، وأشعة القمر في بهاء بهجتها، وأناشيد العيد على أقصى شجوتها ورقتها، إذ كانوا يرنمون ترنيمات المصاعد (مزمور 120-134) وكان المسافرون يسيرون على قافلتين أحدهما للنساء في المقدمة، والثانية للرجال في المؤخرة، ويسير الصبيان الذين تزيد أعمارهم عن الثانية عشر إما مع الرجال أو النساء" (111).

وبعد "مسيرة يوم"، وهذا التعبير كان قول شائع لا يُعبر عن مسافة محددة، إنما مسافة تقريبية، فإن كان الشخص العادي يقطع في "مسيرة اليوم" نحو 20 ميلًا، فإن القافلة التي تسير ببطء والمسافرون يتسامرون فإن السرعة تنخفض إلى نحو 10 ميل (راجع مكرم مشرقي - ما وراء الكلمات - خلفية العهد الجديد ص84). عندما جاء وقت حط الترحال إلتقى يوسف مع مريم، وسأل كل منهما الآخر عن الصبي يسوع، فقد ظن كل منهما أنه مع الآخر، ثم بدأوا يسألون عنه أقرانه ومعارفهم، وعندما تأكدوا من عدم وجوده مع القافلة عادا أدراجهما إلى أورشليم، ورحلة العودة استغرقت أيضًا "مسيرة يوم" وبحثا عنه في اليوم الثالث في أورشليم، وأخيرًا وجداه في الهيكل، والحقيقة أن الطفل اليهودي كان محط اهتمام الأسرة، فعندما يبلغ الثالثة من عمره يرتدي ثوبًا على حدب ذيله عصابة من أسمانجوني (عد 15: 38-41، تث 22: 12). وفي السنة الخامسة كان يحفظ أجزاءً من الناموس مثل "الشمعة" (تث 6: 4) و"الهليل" (مز 114-118) ومزمور (136)، وفي سن الثانية عشرة كانوا يقيمون له إحتفالًا يدعونه "بارميتسباه" ويسلّمونه ملف التوراة، علامة على أنه أصبح رجلًا من شعب اللَّه، ويقدمونه للهيكل ليأخذ لقب "ابن التوراة" (راجع دراسات في الأناجيل الإزائية - مؤلفين متنوعين). والذين سمعوا الصبي يسوع في الهيكل بُهتوا من فهمه وأسئلته وأجوبته، ولا سيما أنه يعيش في الناصرة فلا تُتاح له فرصة التعليم عند أحد كبار المُعلِّمين الذين يعيشون في أورشليم، مثلما تتلمذ بولس الرسول عند رجلي غمالائيل (أع 22: 3).

والحقيقة أن القافلة عندما تحركت ولم يكن فيها يسوع، فإن هذا لا يُعد عدم مبالاة من والديه، أو أنهما أهملا في حقه، إنما يعكس الأمومة والأبوة المتميزة، فهما لم يحدا من حركة ابنهما ذو الاثنتي عشرة عامًا، بل علموه كيف يعتمد على نفسه، ويتخذ قراره، ولا سيما أنه كان يمثل الشخصية الكاملة الناضجة، فقد قرَّر أن يمكث وقتًا أطول في الهيكل وقصد أن يدرك والداه طبيعة رسالته مُبكرًا. والأمر العجيب أنهما لم يجدا ابنهما يجلس عند أقدام أحد المعلمين " يجلس تحت قدمي معلمه يعفر نفسه في تراب أقدام مُعلِّميه" كقول التلمود (راجع الدكتور القس إبراهيم سعيد - شرح بشارة لوقا ص62). وكانت مدرسة الهيكل أشبه بالندوات المفتوحة، وفي عيد الفصح كنت تجد أعظم معلمي الناموس. لقد جلس وسط المُعلِّمين يسمعهم ويسألهم مما أثار دهشة جميع الذين سمعوه يتكلم بسبب ذكاءه وعمق فهمه وحكمته. ويقول "العلامة أوريجانوس": "كان وهو صبي يدرب "المعلمين" ويقدسهم. لم يلقنهم، بل طارحهم الكلام. فعل هذا ليكشف لنا... عن قدرته على محاورة حكماء مُتعلمين... سأل المدرسين لا ليستوضح بل ليعلمهم وهو يطارحهم الأسئلة، فمن منهل واحد للعقيدة تتدفق أسئلة وأجوبة حكيمة. أن تعرف ما تسأل عنه وما تجيب عنه هو جزء من الحكمة. يجدر بالمخلص أن يكون سيد المساءلة المتقنة، يُجيب من بعد عن الأسئلة استنادًا إلى فكر اللَّه وحكمته" (مواعظ على لوقا) (112). وفي الصبى يسوع تحققت نبوءة "إشعياء النبي": "أَعْطَانِي السَّيِّدُ الرَّبُّ لِسَانَ الْمُتَعَلِّمِينَ لأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ الْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ لِي أُذُنًا لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ" (إش 50: 4).

ويقول "الأنبا غريغوريوس": "كان -بسبب حكمة ونعمة اللَّه عليه- محبوبًا من جميع الناس، ومُحبًا لجميع الناس، فضلًا عن أن هذه الحكمة التي كان يتصف بها في صباه كانت تتضمن إلى جانب قدرته على اجتذاب القلوب، ذكاء خارقًا، وعلمًا غزيرًا، وقدرة فائقة على النقاش لا يمكن أن تتوافر للأطفال في مثل عمره حينذاك، يدل على ذلك ما أبداه العلماء الذين كان يناقشهم في الهيكل من دهشة وذهول. وقد كان أولئك العلماء الذين يلقون دروسهم في هيكل أورشليم من أعظم كهنة اليهود وفقهائهم. ويذكر لنا التاريخ أنه كان منهم في هذه الفترة "هليل" الذي كان اليهود يعتبرونه التالي في مكانته لموسى، وكان منهم "غمالائيل" الذي كان بولس الرسول يفتخر بأنه تتلمذ عليه، والذي كان رئيسًا للمجلس الأعلى لليهود المُسمى بالسنهدريم. وكان منهم "حنان" الذي أصبح رئيسًا للكهنة، وكانت له سطوة عظمى على اليهود. فإن كان أمثال هؤلاء بُهتوا من ذكاء السيد المسيح في أسئلته لهم، وفي أجوبته على أسئلتهم، وهو لا يزال في الثانية عشر من عمره، فلا بد أنه أبدى من العلم والمعرفة ما أدهشهم وأشعرهم بأنهم أمام إنسان خارق للطبيعة، وبأنهم أمام إنسان فوق مستوى الإنسان. ومع ذلك فإن الأسفار المقدَّسة لا تذكر كلمة واحدة عما تلقاه السيد المسيح من تعليم طوال الثلاثين عامًا السابقة على خدمته العلنية، بل أنها على العكس تتضمن بعض عبارات تنطوي على تعيير اليهود بأنه لم يكن متعلمًا، إذ كان معروفًا أنه ابن يوسف. وقد كان يوسف نجارًا فقيرًا غير قادر أن يتيح لابنه ذلك القدر من التعليم الذي يؤهله لأن يصير مُعلمًا وأن تخرج من فمه تلك الروائع التي كان ينطق بها بعد أن بدأ رسالته التعليمية" (113).

← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.

 

St-Takla.org Image: Saint Luke painting a portrait of Saint Mary and Jesus. صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس لوقا الطبيب رسم صورة القديسة مريم و الطفل يسوع.

St-Takla.org Image: Saint Luke painting a portrait of Saint Mary and Jesus.

صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس لوقا الطبيب رسم صورة القديسة مريم و الطفل يسوع.

2- كيف تقلق العذراء على ابنها (لو 2: 48) وهيَ تعلم أنه الله، وهل يقلق المخلوق على الخالق..؟ عندما بشَّر رئيس الملائكة جبرائيل العذراء القديسة مريم قال لها: "سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى... الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله" (لو 1: 31، 32، 35)، فربما ظنت العذراء أن ابنها هو ابن اللَّه مجازًا، بالتبني والنعمة، لأن العقل البشري لا يستطيع أن يتصوَّر أن اللَّه ذاته يظهر في صورة إنسان، ولو أن العذراء مريم أيقنت أن ابنها هو الإله الأزلي القادر على كل شيء وضابط كل شيء، فكيف كانت تستطيع أن تتعامل معه وهو طفل أو صبي يحتاج لرعايتها وحنانها؟!! كيف كانت تمد يدها للنار الإلهيَّة وتتعامل مع جمر اللاهوت لو أن اللَّه لم يخلي ذاته لهذه الدرجة؟! وقد أُخفي عن عينيها حقيقة لاهوته، ولكن بعد قيامته وصعوده فقد أُستعلن لاهوت الابن للعذراء والتلاميذ والكنيسة. ومما يؤكد أن العذراء لم تُدرك حقيقة التجسد الإلهي بأعماقه، لذلك عندما ظل الصبي يسوع في الهيكل ولم تجده في القافلة قلقت عليه وتعذبت من أجل غيابه، وعندما وجدته آخذته: "ابُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ" (لو 2: 48) وحتى عندما أجابها يسوع قائلًا: "لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي" (لو 2: 49)، فماذا كان رد فعلهما؟ يقول القديس لوقا نقلًا عن العذراء مريم: "فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا" (لو 2: 50) فإن كان يوسف ومريم لم يفهما عبارة يسوع، فهل يظن أحد أنهما كانا يدركان أنهما أمام اللَّه ذاته؟!! والحقيقة أن عبارة يسوع حملت عمقًا يوضح مدى خضوعه للآب السمائي، ولذلك استخدم فعل " يَنْبَغِي": "أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي"، وقد استخدم السيد المسيح ذلك الفعل الذي يعني "يستوجب" عدة مرات مثل قوله " يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ" (لو 4: 43).. " يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا" (لو 9: 22).. " يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يو 3: 14).

ولأن العذراء مريم لم تكن في البداية تُدرك عمق التجسد الإلهي، لذلك عندما سُلّم ابنها للموت صلبًا تألمت جدًا، بل جاز في نفسها سيف الألم، فلم يصل فكرها إلى أنه سيقوم من الموت وسينتصر على الموت والشيطان ويُقيم البشرية الساقطة معه بعد أن يوفي حكم الموت الذي كانت مُمسَكة به، وأيضًا التلاميذ الأطهار الذي عاشوا مع يسوع أكثر من ثلاث سنوات، يأكلون ويشربون ويقيمون معه، عندما أُسلم للموت تشتَّتوا، وعندما بلغتهم بشارة القيامة لم يصدقوا، فمن يظن أنهم كانوا يُدركون حقيقة التجسد الإلهي؟!! ولكن بعد قيامته فتح أذهانهم ليفهموا الكتب، وأعلن لاهوته لهم، كقول بولس الرسول: "وَتَعَيَّنَ ابْنَ الله بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ الْقَدَاسَةِ بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا" (رو 1: 4).

 

3- هل هذه القصة (لو 2: 41-50) مدسوسة على الإنجيل، وليست حقيقية..؟ هذا الاتهام يفتقر للحجة والدليل، فلو أن هناك شك في القصة فكيف قبلت الكنيسة إنجيل لوقا، بينما كان المبدأ السائد في إقرار قانونية أي سفر: "إذا خامرك الشك في سفر ما فالقه جانبًا"، ومن أجل ما حوته أناجيل أبوكريفا من قصص خيالية عن طفولة يسوع لذلك رفضتها الكنيسة (راجع مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (1) الباب الثالث: تدوين أسفار العهد الجديد وقانونيتها)

ويقول "لورنتان": "إن إطار الأحداث يتناول خطوة خطوة، مُعطيات تاريخية وجغرافية واجتماعية ودينية مُعقدة. والبحث العلمي يؤيدها. فالحج السنوي إلى أورشليم (لو 2: 41) وممارسة هذا الفرض وغيره من الفروض الشرعية اعتبارًا من الثانية عشر تقريبًا (لو 2: 42) والقافلة المذكورة في الآية (44)، ووجود مكان للتعليم على جبل الهيكل (لو 2: 46)، وإمكانية المناقشة في جو من الأُلفة بين ولد وعلماء الشريعة (لو 2: 46، 47) ووضعية يسوع وهو جالس (لو 2: 46)، فذلك كله يتمشى مع عادات ذلك الزمن" (114).

كما يقول "لورنتان" أيضًا: "إن عرض لوقا لهذا المشهد لا يتضمن أية صعوبة من ناحية احتمال حدوثه. فتتمة الأحداث من بحث وقلق الوالدين، وعتاب الأم المتحفظ، وجواب يسوع الرصين وبصيغة غير نابية على لسان ولد، وعدم الفهم المؤقت، وتأمل مريم الصامت، والعودة المتواضعة إلى الناصرة، ذلك كله يتضمن طابعًا من الصدق لا يحتمل أي اعتراض" (115).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(111) شرح بشارة لوقا، ص60.

(112) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص108.

(113) موسوعة الأنبا غريغوريوس - الكتاب المقدَّس "الجزء الرابع" في تفسير إنجيل القديس لوقا، ص42، 43.

(114) الكاردينال جان دانيالو - أضواء على أناجيل الطفولة - دراسة في طفولة يسوع بحسب إنجيلي متى ولوقا، ص74.

(115) المرجع السابق، ص74.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/560.html

تقصير الرابط:
tak.la/26yyjyq