St-Takla.org  >   books  >   fr-youhanna-fayez  >   trials-of-jesus
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب محاكمات السيد المسيح وصلبه حسبما جاءت في العهد الجديد: دراسة تاريخية وتحليلية - القمص يوحنا فايز زخاري

46- أولًا: الكلمات الأربعة الأولى

 

محتويات: (إظهار/إخفاء)

1. الكلمة الأولى
2. الكلمة الثانية
3. الكلمة الثالثة
4. الكلمة الرابعة

1. الكلمة الأولى:

قالها ككاهن يتشفع في صالبيه.

 «فَقَالَ يَسُوعُ: "يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ"» (لوقا23: 34).

» ὁ δὲ Ἰησοῦς ἔλεγεν: πάτερ, ἄφες αὐτοῖς, οὐ γὰρ οἴδασιν τί ποιοῦσιν. «

[يُخيَّل لنا أن الرب يسوع نطق بهذه الكلمات في اللحظة التي كانت تُدَق فيها المسامير في يديه. ولعل هذه الكلمات تَصدُق مبدئيًا على الجنود الرومان. ولكن مما لا شك فيه أن يسوع كان يُفكِّر في كل الذين اشتركوا في الصلب وفي الأحداث التي أدَّت إليه، ومنهم المسؤولين الأصليين مثل قيافا وبيلاطس، والجماهير التي أهانته وصرخت في وجهه اِصلِبْهُ اصلِبْهُ، في الحُكام الساخرين والجنود الهازئين.][342]

وقد علَّم الرب: «صَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إلَيْكُمْ» (متى5: 44)، وها هو على الصليب يُصلي من أجل الَّمُسِيئينَ إلَيه، فقد عمِل بما علَّم. وسمع رئيس الجند كلمات الغُفران مع الآهَات والأنَّات الموجِعة، واختَرقت أُذُنيه إلى قلبه. فما كان يَتَصَوَّر أنه يُوجَد من يَغفِر لِصالِبيه، وجالديه ولاطميه والمُستهزئين به والذين بصقوا في وجهه، وتآمروا عليه.

نعم! الآن بدأت ذبيحة المسيح الكفارية وقدِ اشتعلت فيها النيران، تأتي بِباكورة ثِمارِها. فقد فاضت كلمات الغفران من الذبيحة التي ترتفع على الصليب مذبحِ الغفران.

هذه هي الصورة التي تجلَّت أمام القديس استفانوس أول الشمامسة وأول الشهداء، لكي يُحقِّقها ويَتمثَّل بِمُعلِّمه الأعظم حتى قيل: «فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: "أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي". ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «"يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ". وَإذْ قَالَ هذَا رَقَدَ.» (أعمال59:7، 60).

وتنبأ إشعيا النبي عن شفاعة الرب في صالبيه فقال: «مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ، وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ.» (إشَعْيا12:53).

وقال الرب عن صالبيه: «أَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ.»، وهذا أكَّدَه مار بطرس الرسول إذ قال: «إلهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ، الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإطْلاَقِهِ. وَلكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ، وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ، الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذلِكَ... وَالآنَ أَيُّهَا الإخْوَةُ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضًا. وَأَمَّا اللهُ فَمَا سَبَقَ وَأَنْبَأَ بِهِ بِأَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ، أَنْ يَتَأَلَّمَ الْمَسِيحُ، قَدْ تَمَّمَهُ هكَذَا.» (أعمال13:3-18):

 

· يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ

 

(مت 39:27-43)

(مر29:15-32)

(لوقا35:23-37)

وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: "يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ! إنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ"! وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا: "خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! إنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيب فَنُؤْمِنَ بِهِ! قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللهِ، فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللهِ"!

وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: "آهِ يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ! خَلِّصْ نَفْسَكَ وَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ"! وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ الْكَتَبَةِ، قَالُوا: "خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! لِيَنْزِلِ الآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ"!

وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ، وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: "خَلَّصَ آخَرِينَ، فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ"!

 

وَالْجُنْدُ أَيْضًا اسْتَهْزَأُوا بِهِ..، قَائِلِينَ: "إنْ كُنْتَ أَنْتَ مَلِكَ الْيَهُودِ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ"!.

 

«وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ (يسخرون به)، قائلين: "يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ"!». ولم يُدركوا أنهم يَبذِلون جهدهم لِنَقْض هيكل جسده، ويَشهَدون له بأنه سبَق فأعلن عن قيامته، فصار المُجدِفون شهودًا لِعَمَلِه الخلاصي. طلبوا منه أن يُخلِّص نفسه، ولم يُدركوا أنه جاء يُخلِّصهم بموته وقيامته.

ولعلّ الشيطان بدأ يتحسَّس خطورة الصليب، فارتعب واشتهى أن ينزل السيِّد عن صليبه، لكن فات الأوان، فأثار المجدّفين ليطلبوا: «إنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!». وازداد تَخَوُّفه، فأثار رؤساء الكهنة مع الكتبة والشيوخ ليُثيروه قائلين: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! إنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيب فَنُؤْمِنَ بِهِ!». وركَّز الشيطان على نزوله عَنِ الصليب، حتى كان «اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ.» (مت44:27) لَعلَّه ينزل.

 

St-Takla.org Image: The Crucified Jesus Christ and Saint Dominic (San Domenico), by Fra Angelico between 1437-1446 - Museum and Convent of St. Mark Church (Basilica di San Marco), Florence (Firenze), Italy. It dates back to the 12th century. - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, October 3, 2014. صورة في موقع الأنبا تكلا: يسوع المسيح المصلوب مع القديس دومينيك، رسم الفنان فرا أنجيليكو في الفترة ما بين 1437-1446 - صور دير ومتحف كنيسة مارمرقس (سان ماركو: القديس مرقس الإنجيلي)، فلورنسا (فيرينزي)، إيطاليا. ويرجع إلى القرن الثاني عشر. - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 3 أكتوبر 2014 م.

St-Takla.org Image: The Crucified Jesus Christ and Saint Dominic (San Domenico), by Fra Angelico between 1437-1446 - Museum and Convent of St. Mark Church (Basilica di San Marco), Florence (Firenze), Italy. It dates back to the 12th century. - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, October 3, 2014.

صورة في موقع الأنبا تكلا: يسوع المسيح المصلوب مع القديس دومينيك، رسم الفنان فرا أنجيليكو في الفترة ما بين 1437-1446 - صور دير ومتحف كنيسة مارمرقس (سان ماركو: القديس مرقس الإنجيلي)، فلورنسا (فيرينزي)، إيطاليا. ويرجع إلى القرن الثاني عشر. - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 3 أكتوبر 2014 م.

· «إنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ.» (مت40:27).

 «إنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيب فَنُؤْمِنَ بِهِ!» (مت42:27).

[أرأيتَ حُجَج عدم الإيمان؟! عمل الرب ما هو أعظم من نزوله عن الصليب ولم يؤمنوا، والآن يقولون انزِل عن الصليب لنؤمن بك. فإقامة لعازر من القبر بعد أربعة أيام وهو ملفوف بالأكفان، كانت أعظم من النزول عن الصليب، فهل آمنوا؟! وقيامته من بين الأموات، والقَبْرُ مُغَلقٌ بالأختام، أعظم من النزول عن الصليب، إن أرادوا أن يُؤمنوا][343]

 

هل أثار الشيطان الرب بكلامه على ألْسِنة الناس؟

« إنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!» (متى27: 40).

كان الموقف أمام الرب: أن ينزل عَنِ الصَّلِيبِ فيُثبت للعالم كله أنه ابن الله!!

أو يبقى مصلوبًا، كذبيحةٍ تعمل فيه النار إلى النهاية وتُخفي قُوَّته، فيَشُكُّوا فِي لاهوته ولا يؤمنوا به. وقد شك فعلًا كثيرون لأنه إلهٌ مصلوب. ولو نزل عن الصليب، لظهرت قوته، وضاع فداؤنا.

أما الرب فاختار خلاصنا.

«خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا!» (مت27: 42). ولو خلص نفسه لَضَاع خلاصُ الآخَرين. لم يُفكِّرِ الرب في آلامه بل فكَّر في صالبيه. وأشفق على شاتميه والهازئين به، وصلى: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو23: 34). عجيبٌ هو الرب، يرَى الأشرارَ قُساةَ القلوب، مُخطئين بلا معرفة، فلم يغضب عليهم، ولم يُعاقبهم، بل غفر لهم، وصلَّى ليَغفر الآبُ لهم، فقال مار بولس: «لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ.» (2كو2: 8).

وفي هذا يقول القس الدكتور: بيشوي حلمي إبراهيم: [السيد المسيح لم يُخلص نفسه؛ لأنه لأجل هذه الساعة قد أتى، ثم يُقدم النصوص الكتابية والأدلة التالية:

§ «أَنَّ ابْنَ الإنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مت20: 28).

§ «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ (يوحنا16:3).

§ «أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ،.. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ (يوحنا11:10، 15). ][344]

 

لَم يُصلَبِ المسيح عن ضعف، بل عن قوة، والأدلة على هذا:

§ وضع الرب ذاته بإرادته لخلاص البشرية، وقال: «لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي... لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا» (يو17:10، 18).

§ أخبر تلاميذه مرارًا، عن صلبه وموته وقيامته، قبل هذه الأحداث بكثير، وقبل صعوده إلَى أُورُشَلِيمَ في الأسبوع الأخير، إذ قال لتلاميذه: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإنْسَانِ يُسَلَّمُ إلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ

 وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (مت20: 18،19).

§ وقَالَ لتَلاَمِيذِهِ في البستان: «نَامُوا الآنَ وَاسْتَرِيحُوا! هُوَذَا السَّاعَةُ قَدِ اقْتَرَبَتْ، وَابْنُ الإنْسَانِ يُسَلَّمُ إلَى أَيْدِي الْخُطَاةِ. قُومُوا نَنْطَلِقْ! هُوَذَا الَّذِي يُسَلِّمُني قَدِ اقْتَرَبَ!» (مت26: 45،46).

§ وعند القبض عليه، قطع بطرس أذن عبد رئيسَ الْكَهَنَةِ فقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ الْكُتُبُ» (مت26: 52-54).

§ وَيصف القديس يوحنا موقف المسيح أمام العسكر بشجاعة «وقَالَ لَهُمْ: "مَنْ تَطْلُبُونَ"؟ أَجَابُوهُ: "يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ". قَالَ لَهُمْ: "أَنَا هُوَ". وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضًا وَاقِفًا مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: إنِّي أَنَا هُوَ، رَجَعُوا إلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ. فَسَأَلَهُمْ أَيْضًا: "مَنْ تَطْلُبُونَ؟" فَقَالُوا: "يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ". أَجَابَ يَسُوع: "قَدْ قُلْتُ لَكُمْ: إنِّي أَنَا هُوَ. فَإنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ". لِيَتِمَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ: "إنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا".» (يوحنا4:18-9).

§ وأعلن عن شخصه أمام رئيس الْكَهَنَةِ بجُرأةٍ، أنه ابن الله الذي سيصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه (مت26: 63-65). كما أعلن أمام بيلاطس الوالي أنه ملك قائلًا: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا... لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ".» (يو4:18-9).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

2. والكلمة الثانية:

قالها كمَلك، يُنعِم على اللص اليمين بنصيب في ملكوته:

 «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ.» (لوقا43:23).

 

· اللِّصَّانِ يُعَيِّرَانِهِ

 

(متى44:27)

(مر 32:15)

(لوقا39:23-43)

وَبِذَلِكَ أَيْضًا كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ.

"لِيَنْزِلِ الآنَ الْمَسِيحُ مَلِكُ إسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ". وَاللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ كَانَا يُعَيِّرَانِهِ.

وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلًا: "إنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإيَّانَا"! فَانْتَهَرَهُ الآخَرُ قَائِلًا: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ".

 

وهنا تظهر مُشكلة: فَيَبْدو التعارضُ الظاهري بين القديسين متَّى ومرقس إذ قالا: كَانَ «اللِّصَّانِ يُعَيِّرَانِهِ». وبين القديس لوقا: الذي أظهر أن «وَاحِدًا مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ» هو الذي كان يُعَيِّرَ المسيح ، والحقيقة أنَّه في البداية كَانَ اللِّصَّانِ يُعَيِّرَانِهِ، ثم بعد قليل تراجع ديماس اللص اليمين، إذ رأى المصلوب في قِمة عذابه لا يُجدِّف مثلهما. كان يَتَوقع منه صرخات الألم ولَعنات اليأس، لكنه تعجَّب إذ سمعه يهتم بالآخَرين بِكل الحب، ويُرسِل غُفرانَه لصالبيه.

رافق اللصان المسيح بعد القبْض عليه، ورأيا معاملاته في الطريق إلى الجلجثة وهو حاملٌ الصليب، فتأثَّرا به. وتحرك قلب أحدهما نحو ذلك الوديع المحب الغافر في أصعب الأوقات وأشد الآلام. فعملت النعمة الإلهية فيه وفتحت ذِهنه فتجاوب معها.

واستمر الآخَر في تجديفه قائلا: «إنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإيَّانَا!» (لو39:23).

يقول كل من القديس جيروم والعلامة أوريجينوس: [عَيِّرَه اللِّصَّان. لكن بعد أن استترت الشمس وخيم الظلام، تراجع أحدهما وآمن بالمسيح.][345]

أما الكهنة فلم يقودوا الناس للإيمان بل أعثروهم. وقد تنبأ أنبياؤهم بِصلْب المسيا وجَلْدِه وتمزيق ثيابه، الأمور التي رَأَوْها حادثَةً مع الرب يسوع، لكنهم قادة عميان، قلَّدهم اللِّصُّ الآخر وهَلك.

«خَلِّصْ نَفْسَكَ»: تَصَوَّر اللص، كما تَصَوَّر رؤساء الكهنة من قبل، أن المسيا يُخلِّص نفسه. والحقيقة، أنه إذا خلَّص نفسه، فليس هو المسيح الذي ينتظره الشعب، ذلك يأتي؛ ليُخلِّصَ الجالسين في الظُلْمة وظلال الموت.

وجاهد اللص ليُيْقِظَ اللص الآخَر، فقال له مُبَكِّتًا: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ؟، إذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.» (لوقا40:23، 41) معترفًا بخطيته أمام رئيس الكهنة الأعظم، الذي يُقدِّم ذبيحة نفسه على مذبح الصليب. وأعلن براءة المسيح قائلًا: «وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.» (لوقا41:23)

 

· عجيبٌ هذا اللص الطوباوي

عجيبٌ في تَوبته، وتَراجُعِه عن تعييراته. اِستحقَّ عمل النعمة فيه؛ إذ رَجِع في وقت عصيب، واستنار عقْلُه، بقَيادَة النعمة، وتكلم كقول الكتاب: «لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَمًا وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا ويُنَاقِضُوهَا.» (لوقا21: 15).

كان ديماس اللص الطوباوي تتصارع داخله قُوَّتان، قُوة طبيعتِه الشريرة التي أَوْدَت به إلى الصلب، وقُوة تَأَثُّرِه بيسوع وما يحدث معه، حتى صرخ من أعماقه: «اُذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ.» (لو23: 42). بعد جهاد داخلي شغل عقله وقلبه حول الإيمان بالمسيح. إذ آمن في وقتٍ، هرب فيه العظماء، وأنكر التلميذ الذي تعلم أكثر من ثلاث سنوات على المعلم الأعظم. وبصعوبة بالغة وَجَّهَ الربُّ كلماته للص المُجاهد التائب، قائلًا: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ.» (لو23: 43). وهكذا سرق ديماس اللص الفردوس، وحاز وعد الحياة الأبدية. وبعد ساعات قليلة، انطلقت روح المسيح لتنتظر روح ديماس في الفردوس.

نعم طوباك أيها اللص الطوباوي؛ فإنك تستحق المديح الذي نَظَمَته لك الكنيسة المقدسة المُرتشدة بالروح القدس. إذ يرتفع رئيس الكهنة إلى كرسيه وينادي بصوتٍ عال بلحن أمانة اللص: ويرد عليه الشعب، في الساعة السادسة من يوم الجمعة العظيمة مُرَدِّدين بلسان اللص الذي آمَن بالمصلوب، أنه ملك وأن له مَلَكُوتًا. وآمَن بالحياة بعد الموت، قائلًا: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». (لوقا42:23).

والرب الذي أنكره بطرسُ الرسول، اعترف به اللصُّ وهو معلقٌ على الصليب. ذاك التلميذ لم يحتمل تهديدًا من جارية، أما اللص فرَأى جمهورًا يهتف صارخًا بالتجديف والسُّخرية على المصلوب، لكنه بِعَين الإيمان، ترك عنه العثرات، واعترف بسيد السموات، قائلًا تلك الكلمات:

«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ... اذكرني يا قدوس... اذكرني يا سيد.. مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ».

[يا ملك الملوك المسيح إلهنا ورب الأرباب، كما ذكرتَ اللص الذي آمَن بك على الصليب، اُذكرنا فِي ملكوتك. من رأى لِصًا آمَن بِملك مثل هذا اللص، الذي بأمانته سرق ملكوت السموات وفردوس النعيم.. من أجل أعمالك أيها اللص عُلِّقت على الصليب كالمذنبين، وبإيمانك استحققت النعمة والفرح وفردوس النعيم... طوباك أنت أيها اللص الطوباوي، لِسانك الحسن المَنطِق، الذي به تأهلت بالحقيقة لملكوت السموات وفردوس النعيم... أيها اللص الطوباوي، ماذا رأيتَ وماذا أبصرتَ حتى اعترفتَ بالمسيح المصلوب بالجسد، ملك السماء وإله الكل. ما رأيتَ المسيح متجليًا على طور طابور فِي مجد أبيه، بل رأيتَه مُعلقًا على الإقرانيون. فلِوَقتك صرخت قائلًا:...[346]«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ....».][347]

ما رأيتَ المسيح متجليًا على طور طابور فِي مجد أبيه، بل رأيتَه مُعلقًا على الإقرانيون. فلِوَقتك صرخت قائلًا:... آمنت وما رأيت السماء والأرض اضطربتا والشمس والقمر أظلمتا، والأموات قامت والصخور تَشَقَّقت، وسِتر الهيكل انشق. ولِوقتك صرخت قائلًا[348]: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ...».][349]

وفي هذا يقول القديس بطرس السدمنتي: [إن اللص عند رجوعه عن سُوء رأيه، استنار عقله بالنور الإلهي، فتكلم على سبيل الإلهام من القوة العُلوية، كما حدث لبطرس الرسول حينما قال «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!» (متَّى 16:16) فقال له السيد إن لحمًا ودمًا لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السموات.][350]

 

· من أين عرف اللص أن المسيحَ ملكٌ؟ حتى قَالَ له:

«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ» (لو42:23).

»μνήσθητί μου ὅταν ἔλθῃς εἰς τὴν βασιλείαν σου. «

أهو إلهامٌ بالنعمة؟ أم كان يتعلم من كل كلمة سمعها؟ ويُسترجع فهمها بما يتناسب مع خضوعه للإيمان بذلك المصلوب العجيب؟ أم سمع رد المسيح على بيلاطس «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إلَى الْيَهُودِ.». (يو36:18)؟! لعله كان حاضرًا للمحاكمات، أو عرف من هجوم اليهود على المسيح بأنه يَدَّعي المُلك، أو قرأ العنوان الذي أعدوه ليضعوه فوق رأس المسيح، ليعلن جريمته «يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ». (يو19:19) ففهم أنَّه قال أنَّه ملك، وخضع قلبه لِما قاله الرب.

فمَقُولة اللص تكشف عن باطِنه، ففيها:

§ اعتراف أنَّه عبدٌ أمام السيد، إذ قال له «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ».

§ آمن بالمجيء الثاني، إذ قال له «مَتَى جِئْتَ».

§ آمن أنَّه ملك وله مَلَكُوتٌ سمائي فقال: «مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ»،

§ انتظَر أن يَذكُرَه الرب فِي مَلَكُوتِه في مجيئه الثاني. وكأنَّه في ندمٍ يقول: "لم ألحق بك يَا رَبُّ في مجيئك الأول، إلا في اللحظات الأخيرة، فاذكرني في مجيئك الثاني فيما بعد الموت.

§ هكذا أعلن إيمانه بالقيامة العامة والحياة بعد الموت.

[كان مُتضعًا؛ فإن ابني زبدي طلبا أن يجلس واحدٌ عن يمينه والآخَر عن يساره في ملكوته. أما هو فما طلب هكذا، بل طلب فقط أن يذْكُرَه. كانت طِلبته مُتضعة، فماذا أخذ؟ أخذ الاثنين. ذَكَره الرب، وأجْلَسه عن يمينه في ملكوته. فالمسيح مَلَك على خشبة، والصليب هو عرشه، والذي جلس عن يمينه في عرشه هو هذا اللص الطوباوي.][351]

رجع عن خطأه، وعمل بالوصية التي لم تُكتب بعد: «لاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُلْمة غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا.» (أفسس5: 11). وفي الحال ترك أعمال الظُلْمة والتجديف ثم:

§ وبخ اللص الآخَر قائلا: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟» (لو40:23)

§ اعترف بخطيئته وقَبل عقوبتها برضي قائلا: «أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا.»

§ شهد لِبراءة الرب: "وَأَمَّا هذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ.» (لو41:23).

§ أضاف «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ.» (لو42:23).

[في يوم الجمعة العظيمة ارتفعت ثلاثةُ صُلبانٍ، وعلينا أن نختار واحدًا. أمَّا صليب الفادي البار الذي بلا خطية، فلا يُمكن أن يكون نَصيبَنا. ويبقى صليبان، أحدهما صليب الإيمان والاعتراف العلني والتوبة، والآخَر صليب الإنكار والجحود، فعلينا أن نختار عمليًا في حياتنا أحدهما.][352]

فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ.» (لو43:23).

 »ἀμήν σοι λέγω :σήμερον μετ’ ἐμοῦ ἔσῃ ἐν τῷ παραδείσῳ«

[ إنجازان للصليب يفوقان إدراك العقل البشرى. فُتحَ الفردوس الذي كان مغلقًا. ودخل اللص إليه. «اليوم تكون معي في الفردوس.» (لو43:23). عجبًا! وأنت مُسمَّر على الصليب تَعِدُ بالفردوس؟ لنُدرِك من هذا قوةَ المصلوب والمعجزة التي تمت. فاللص لم يؤمن به وهو يقيم الموتى، أو ينتهر أمواج البحر ويطرد الشياطين، بل عندما كان مصلوبًا ومسمّرًا.][353]

اللص اليمين: هكذا دُعِيَ في التقليد لأنه من الخراف الذين عن اليمين، أو لأن التقليد الكنسي قد حفظ لنا أنه صُلب عن يمين الرب.

كان ديماس اللص مفتوح العينين، مستمعًا جيدًا، متأملًا بعمق. فهم الموقف جيدًا، وأسرع وأخذ القرار بلا إبطاء، وأعلنه. وانطبق قول سليمان الحكيم: «تُفَّاحٌ مِنْ ذَهَبٍ فِي مَصُوغٍ مِنْ فِضَّةٍ، كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ فِي مَحَلِّهَا.» (أم11:25). فآمن وعمل ودُعي عظيمًا.

جاهد اللص الجهاد الحسن: إذ رأى الرب في حالة ضعف، ظاهريًا. رآه مجروحًا متألمًا مهانًا لا صورة له ولا جمال فنشتهيه. تلاميذه تركوه، رؤساء الكهنة وجماهير الشعب ينادون "اصلبه اصلبه". فهل يؤمن بذلك الضعيف المهان؟! إنه صراع داخلي جاهد فيه اللص جهادًا حسنًا، جاهد وغلب، وقال أقوم الآن وأُعلن إيماني رغم الظروف المحيطة. فاستحَقَّ بالحقيقة أن يَقْبله الرب سريعا ويقول له: «إنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ».

 

يا مُعلِّمَ العقيدة الأعظم!!

قال اللص للرب المصلوب: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ».

فكانت إجابته: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ.» (لوقا42:23).

هَلْ وَأنت يَا رَبُّ مُعلقٌ على الصليب، والآلام تأخذ منك مأخذًا قاسيًا، وقد غطى الخِزْي وَجهك (مز44: 15)، تُصحِّح الكلمات، وتُعلِّم العقيدة الصحيحة؟! فملكوت السموات ليس الآن، بل بعد الدينونة العامة. أما الآن فستنطلق النفوس فقط إلى الفردوس، حالة انتظار الأبرار.

يقول ذهبي الفم: [تَعِدُ اللص بأن تُدْخِله هناك؟ فلك سُلطان على الجحيم والحياة والموت. ومع أن الملك لا يرضى أن يُجالس لصًا، إلاّ أن السيد محب البشر فعل ذلك، وأدخل اللص معه إلى الْفِرْدَوْسِ.

ودخول اللص لا يَهين الفردوس بل يُشرّفه. وشرَف الفردوس أن السيد محب البشر، يجعل لصًا جديرًا بالتَّنعُم فيه. ويجعل العشارين والزناة أهلًا لمجد الملكوت. فكما نُعجَب بالطبيب عندما نراه يشفي الناس من أمراض مستعصية، هكذا نُمجد المسيح إذ يشفي أمراض النفوس، جاعلًا أولئك الذين سيطرت عليهم الآثام، أهلًا لملكوت السموات.][354]

أما القول الإلهي: «الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» فيُثبت عقيدتنا الأرثوذكسية في أن الأرواح البارة تنطلق حالًا بعد موتها إلى «الْفِرْدَوْسِ»، دون المرور زمانًا بالمطهر. وقصة الغني ولعازر تُؤيد هذا المعنى، إذ قيل: «إنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إلَيْنَا» (لوقا26:16). وتؤكد هذه القصة أن الموت يضع نهاية لمحاولة تغيير حالة الإنسان التي كان عليها في حياته الأرضية. فتظل النفس الإنسانية على حالتها الأخلاقية التي كانت عليها عندما فارقت الحياة. لذلك يقول القديس إكليمنضس الروماني: [طالما نحن في العالم، فعلينا أن نُقدِّم توبة من القلب. أما عندما نخرج من العالم فلن تكون لنا فرصة للتوبة][355].

ويقول مار بطرس الرسول: «الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ، إذْ عَصَتْ قَدِيمًا، حِينَ كَانَتْ أَنَاةُ اللهِ تَنْتَظِرُ مَرَّةً فِي أَيَّامِ نُوحٍ، إذْ كَانَ الْفُلْكُ يُبْنَى، الَّذِي فِيهِ خَلَصَ قَلِيلُونَ، أَيْ ثَمَانِي أَنْفُسٍ بِالْمَاءِ.» (1بط19:3، 20). وهنا يشير إلى أن الرب حينما مات بالجسد، ذهبت روحه الإنسانية المتحدة بلاهوته إلى الجحيم (السِّجْنِ)، وكَرَزَت وبشرت الذين ماتوا على رجاء.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

3. الكلمة الثالثة:

«هُوَذَا ابْنُكِ... هُوَذَا أُمُّكَ.» (يوحنا26:19-27)

»ἴδε υἱός σου... ἴδε μήτηρ σου. «

«وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: "يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ". ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: "هُوَذَا أُمُّكَ". وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إلَى خَاصَّتِهِ.» (يوحنا25:19-27).

في كلمات المسيح على الصليب تكلم مع الآب، وتكلم مع البشر: القديسين كالعذراء مريم ويوحنا الرسول، كما مع الأشرار التائبين مُمثَّلين في اللص اليمين.

وتحت الصليب وقفت القديسة العذراء «يَجُوزُ فِي نَفْسِها سَيْفٌ.» (لو2: 35)، كقول القديس سمعان الكاهن والشيخ مُتنبئًا، أما الآلام المُبرِحة فلم تُنسِ ربَّنا يسوع الاهتمام بأُمِّه، وقال لها:

«يَا امْرَأَةُ، هُوَذَا ابْنُكِ.. وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ أَخَذَهَا التِّلْمِيذُ إلَى خَاصَّتِهِ.» (يو19: 27،26).

وكمُعَلِّمٍ أعْطانا أُمَّه أُمًّا لنا، في شخص يوحنا الحبيب الكاهن نائب البشرية، وأَوْصَاها بنا.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

[342]القس غوردن بري، أسبوع الآلام، كاتدرائية سانت جورج بالقدس، جمعية نشر المعارف المسيحية، ص55.

[343]القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة الثانية من ثلاث عظات عن الصليب، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس PG, vol.40: p.418.

[344]د. القس بيشوي حلمي إبراهيم، هل حقًا صُلب المسيح؟ الجزء الأول من رسالة الدكتوراه، طبعة أولى 2014م، ص272-274.

[345]Corpus Christianorum, Series Latina, Turnhout, Belgium: Brepols, 1953-, vol.77: p.272-73.

[346]النص المُستعمل الآن (آمنت لما رأيت السماء والأرض اضطربتا والشمس والقمر أظلمتا) وقد كان إيمان اللص واعترافه بملكوت المسيح قبْل الظُّلمة، ولذلك يقترح الباحث أن يُقال هنا: "آمنتَ وما رأيت الشمس والقمر اظلمتا..." يعني "آمنتَ على الرغم أنك لم ترَ.

[347]ألبير جمال ميخائيل، التمام في طقس أسبوع الآلام، مار جرجس شيكولاني، طبعة أولى 2015م، ص777: 782.

[348]النص المُستعمل الآن (آمنت لما رأيت السماء والأرض اضطربتا والشمس والقمر أظلمتا) وقد كان إيمان اللص واعترافه بملكوت المسيح قبْل الظُّلمة، ولذلك يقترح الباحث أن يُقال هنا: "آمنتَ وما رأيت الشمس والقمر اظلمتا..." يعني "آمنتَ على الرغم أنك لم ترَ.

[349]ألبير جمال ميخائيل، التمام في طقس أسبوع الآلام، مار جرجس شيكولاني، طبعة أولى 2015م، ص777: 782.

[350]القديس بطرس السدمنتي، القول الصحيح في آلام المسيح، تنقيح القمص يوحنا المقاري وشنوده عبدالسيد، سنة 1926م، ص58.

[351]البابا شنوده الثالث، مجموعة تأملات في أسبوع الآلام، طبعة ثانية 1991م، ص179.

[352]القس غوردن بري، أسبوع الآلام، كاتدرائية سانت جورج بالقدس، جمعية نشر المعارف المسيحية، ص61.

[353]القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة الثانية من ثلاث عظات عن الصليب، ترجمة د. جوزيف موريس فلتس PG, vol.40: p.418.

[354]نفس المرجع السابق.

[355]د. موريس تاوضروس، علم اللاهوت العقيدي: ج3، ص740.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-youhanna-fayez/trials-of-jesus/last-words-1-3.html

تقصير الرابط:
tak.la/a2x8ybz