St-Takla.org  >   books  >   fr-tadros-malaty  >   who-can-harm-you
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب مَنْ يقدر أن يؤذيك؟ (لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذِ هذا الإنسان ذاته)، للقديس يوحنا الذهبي الفم - القمص تادرس يعقوب ملطي

1- مقدمة

 

مَنْ يقدر أن يؤذيك؟

البشرية في كل عصورها تشكو وتئن من كوارث طبيعية ومشاكل اجتماعية من الخارج، ومن آلام نفسية ومتاعب روحية في الداخل. من قحط وطوفان وزلازل وبراكين، ومن أمراض جسدية متنوعة، ومن أخطار لصوص وتعديات وافتراءات ومشاكل مع إغراءات مستمرة، ومن اضطرابات نفسية وقلق وخداع داخلي الخ، فلا تسلم نفس واحدة من الضيقات الخارجية والداخلية، منفردة أو مجتمعة.

هذا ما تلاحظه يا عزيزي عندما يستبد بك الألم ويساورك القلق في وسط دوامة هذه الحياة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكثيرًا ما يشكو إليك أصدقاؤك مما تشكو منه نفسك، وحينئذ يخفف عنك ألم نفسك شعورك بشركة الجميع فيه، وفيما هو أشد منه. لكنك تحاول أن تعكس أتعابك الداخلية على أقرب حادث أو باعث خارجي كما يفعل الكثيرون ممن يحيطون بك. فقد تُبَرِّر تعب نفسك بظلم الآخرين لك، أو تعديهم عليك، أو حرمانك من العطف الأبوي أو الأموي نتيجة تقصير ممن تنتظر منهم حنوًا، أو تقصير زملائك في تقديرك، أو عدم عدالة رؤسائك في العمل والذين بيدهم حقوقك الخ. وأنت في هذا قلما تقدر أن تدخل إلى نفسك لتلتمس التعليل الحقيقي لحالك هذا. فما أسهل على النفس أن تخدع نفسها أكثر من أن تُخدَع من الآخرين. وما أصعب عليها أن تهتدي إلى حقيقة مصدر ضعفاتها الداخلية بسبب محاولتها نسب كل ضعف وضيق وتذمر إلى أمور خارجية أو مجرد مؤثرات اجتماعية.

لكن الحقيقة هي التي كشفها لنا ربنا يسوع خالق النفس والعالم أن السبب في داخلها في جميع الظروف والأحوال. فقد علَّمنا أن داء النفس في ذاتها وليس خارجًا عنها.

النفس البشرية تشبه إناءًا خزفيًا واحدًا لا يختلف إلاّ في طبيعة ما بداخله، فإن كان ما بداخل الواحد بنزين وبداخل الآخر ماء، سيصطحب اقتراب جمرة نار التهاب الأول وانفجاره، أما الثاني فيطفئ الجمرة. هكذا تنزل الكارثة الواحدة باثنين، تزداد نفس أحدهما إزاءها شجاعة وخبرة، بينما تتحطم نفس الثاني باليأس.

St-Takla.org Image: St. John Chrysostom, Northwest spandrels (1559-1603) on the vault of the Clementine Chapel. From designs by Cristoforo Roncalli known as Pomarancio (1552-1626). - St. Peter's Basilica: The Papal Basilica of St. Peter in the Vatican: Basilica Papale di San Pietro in Vaticano, Rome, Italy. Completed on 18 November 1626 - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, September 22, 2014 صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس يوحنا الذهبي الفم، في عروة العقد ما بين الأعمدة في الركن الشمالي الغربي من كنيسة كلامنتين. تصميم كريستوفورو رونكالي (يُعرف أيضًا باسم بومارانشيو 1552-1626). - صور كاتدرائية القديس بطرس الرسول، الفاتيكان، روما، إيطاليا. انتهى العمل بها في 18 نوفمبر 1626 م. - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 22 سبتمبر 2014

St-Takla.org Image: St. John Chrysostom, Northwest spandrels (1559-1603) on the vault of the Clementine Chapel. From designs by Cristoforo Roncalli known as Pomarancio (1552-1626). - St. Peter's Basilica: The Papal Basilica of St. Peter in the Vatican: Basilica Papale di San Pietro in Vaticano, Rome, Italy. Completed on 18 November 1626 - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org, September 22, 2014

صورة في موقع الأنبا تكلا: القديس يوحنا الذهبي الفم، في عروة العقد ما بين الأعمدة في الركن الشمالي الغربي من كنيسة كلامنتين. تصميم كريستوفورو رونكالي (يُعرف أيضًا باسم بومارانشيو 1552-1626). - صور كاتدرائية القديس بطرس الرسول، الفاتيكان، روما، إيطاليا. انتهى العمل بها في 18 نوفمبر 1626 م. - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 22 سبتمبر 2014

هكذا القلب الممتلئ بالمسيح سلامًا وفرحًا لا تقوى عليه الكوارث ومحاربات الشر بجميع مغرياتها أو تهديداتها على نزع سلامه منه، بل تزيده سلامًا بانتصاره في جهاده، ومقاومته لها بإيمانه، فتتحول التجربة إلى مصدر بركة وخبرة روحية في جهاده الحيوي. أما القلب المنصرف عن الرب يسوع، فإنه خالٍ من السلام والبركات النابعة من هذا الفيض الإلهي. لهذا فإنه يسقط في ضيق نفسي تحت أعباء الخطية، لا بسبب مؤثر خارجي، إنما بالحقيقة لأجل التعب الداخلي.

إذن، فليكن لك سلام مع الله وشركة عميقة مع الثالوث القدوس، عندئذ لا تخف، لأنه لا يقدر شيء ما أو إنسان مهما بلغ إجرامه أو تدابيره وحيله أن يؤذيك. وهكذا إن لم تؤذِ نفسك بنفسك لا يقدر أحد أن يؤذيك. أما إن أضررتَ بنفسك بانصرافك عن الله، وإهمالك دعوته، واستهتارك بإمكانيته القوية القادرة أن تعمل فيك، عندئذ خف واضطرب، ولو لم يوجد مثير خارجي.

يقول قداسة البابا الأنبا شنودة الثالث[1]: [صدق القديس يوحنا الذهبي الفم عندما كتب مقالًا طويلًا عنوانه: "لا يستطيع أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذِ هذا الإنسان ذاته".

والإنسان الذي يرتفع فوق مرتبة الأذى، هو الذي حدد له هدفًا واضحًا في الحياة، هدفًا واحدًا هو "الالتصاق بالله"، وليس غير هذا الهدف. لا يستطيع أحد أن يبعده عنه، لأن العلاقة بالله عمل داخلي في القلب. وهكذا يقول بولس الرسول متعجبًا: "من سيفصلنا عن محبة المسيح: أشده، أم ضيق، أم اضطهاد، أم جوع، أم عري، أم خطر، أم سيف... لكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا".]

من ذا الذي يؤذيك إذن؟ تؤذيك خطيتك، لأنها تفصلك عن الله، وتؤدى بك إلى الهلاك الأبدي. إذن أنت إذا أخطأت تؤذي نفسك. أما إن كان قلبك نقيًا، فلا يمكن لأحد أن يؤذيك.

قد يسلبك البعض مالك، ولكنه لا يستطيع أن يسلب منك ملكوت الله. وسلب المال ليس أذى، لأنه لا يفصلك عن الله. فآدم وهو في الفردوس بعد السقوط قبيل أن يُسلبَ منه شيئ، كان الرعب يملأ قلبه، حتى عندما سمع صوت الله ماشيًا مناديًا إياه، إذ أجابه: "سمعت صوتك فخشيت". بينما بولس الرسول في وسط السجن، تحت حراسة مشَدَّدة، ونفسه تحمل أعباء مسئولية كنائس هذا قدرها، مع سماعه عن انقسامات وانشقاقات وثورات يقوم بها الرعاة ضده، ومع ذلك يملأ الفرح قلبه، بل ويناشد المؤمنين جميعًا أن يفرحوا قائلًا: "افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا" (في 4: 4).

وفي حياتنا اليومية نجد كثيرين لا يملكون إلاَّ كفاف يومهم، لكن بسلامهم الداخلي يؤمنون بالذي يعولهم، بينما كثيرون يملأ الغِنَى مخازنهم، ولكن لا يعرفون أن يناموا الليل.

[قد يؤذي أحد جسدك، بالضرب أو الجلد أو التعذيب أو القتل، كما حدث للشهداء أو المعترفين. ولكنه في كل ذلك لا يمكنه أن يؤذي روحك، بل على العكس يعد لك بذلك أكاليل مجد في السماء. وقد يطردك أحد من مكان أو من عمل، ولكنه لا يقدر أن يطردك من حضرة لله. بل بطرده إياك يُعَظِّم أجرُك في السماء. "لأنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم" فطوباك"[2].] أما الذي أراد أن يؤذيك، فيصيبه نفس الضرر الذي دبَّره. "حفرَّ فسقط في الهوة التي صنع. ويرجع تعبه على رأسه وعلى هامته يهبط ظلمه" (مز 7: 15-16).

فهامان صُلِبَ على عود الصليب الذي صنعه لمردخاي، وقايين القاتل، صار تائها في الأرض بينما هابيل المقتول انتقل من أرض الألم والشقاء. ويوحنا المعمدان في وسط السجن يُقَدِّم رأسه للسياف بشجاعة مُرددًا كلمة الحق مُقَدِّمًا حياته بسلام، أما هيرودس الملك صاحب السلطان فيضطرب ويرتعب ويهاب يوحنا المعمدان المجرد حتى بعد قتله، إذ فقد سلامه الداخلي. ويوسف ارتقى إلى المنصب العالي، أما إخوته الحاسدون والحاقدون له فخرّوا عند قدميه.

حقًا كم من ظالمين كثيرين لا ينامون الليل رعبًا، يكرهون الحياة ويضطربون داخليًا رغم ما لهم من صورة العنف والقوة، بينما كثيرون في وسط المكائد المُدَبَّرة لهم ظلمًا ينامون مطمئني النفس لا يهابون أحدًا ولا يخافون الزمن، كبطرس الرسول النائم في وسط السجن!

[وقد يتكلم عنك بعض الناس كلمة رديئة. افحصها جيدًا، في قلبك، إن كانت كلمة كذب وباطل، فهو لا يؤذيك بها، بل ينطبق عليك قول الرب: "طوبى لكم إذا عيروكم... وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا وتهللوا، لأن أجركم عظيم في السماوات". أما إذا كانت هذه الكلمة الرديئة صدقًا وحقًا، فإنك إن دافعت عن نفسك، لا تدفع الأذى عنك، وإنما تؤذى نفسك بالأكثر، إذ ترتكب بدفاعك خطايا أخرى تزيد انفصالك عن الله. اعتبر ما سمعته عنك بمثابة اعتراف منك، أو كأنه جزاء (تأديب) عن خطيئتك، أو خذه كتنبيه لك أو نصح أو إنذار وهكذا تستفيد منه وتنتفع.

يا أخي، يسعد قلبك جدًا إن عرفت تمامًا ما هو الأذى في حقيقته، الأذى الحقيقي هو خسارتك لأبديتك. لا تهتم بتصرفات الناس من حولك، إن إتعابهم لك من الخارج لا تؤذيك مطلقًا، إن كان ذلك منهم بنوع الظلم. فهكذا حدث للأنبياء والرسل والقديسين جميعًا وللسيد المسيح نفسه. أما إن كانت مضايقاتهم لك بسبب خطيئة ارتكبتها أنت، فلا تُشَبِّه نفسك حينئذ بالقديسين الذين تألموا من أجل المسيح بسبب برّهم، بل تكون بخطيئتك قد جلبتَ الأذى إلى نفسك، وأيضًا أعثرت الآخرين[3].]

أخيرًا هل تستطيع قوة خارجية أن تجبرك علي الخطية فتؤذيك؟ لا بالتأكيد، فإنه بالرغم مما لدى العالم من مغريات جذابة، وعند الشيطان من حيل وخداعات، لكن لا تستطيع قوة خارجية أن تنحرف بإنسان بغير إرادته، إلاَّ إذا ترك قلبه ينحرف داخليًا أولًا. فيوسف إذ كان في سلام مع الله لم تستطع الشهوة أن تسيطر عليه مع أنه كان شابًا، غريبًا، محرومًا من العطف الأبوي والأموي والأخوي، ليس لديه كتاب مقدس، ولا كاهن أو معلم، والخطية معروضة أمامه في أقوى صور الأغراء، في مكان مغلق، لا يعلم أحد بشيءٍ عنه، تغريه سيدته بل وتهدده ممسكة بثيابه، ومع ذلك لم تضطرب نفسه، ولا سقط في الشهوة بل في سلام كامل أجابها: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟" وعلى العكس داود النبي، الذي أقامه الله من المزبلة إلى المُلك، المتزوج بأكثر من امرأة، صاحب المزامير الجميلة المُعَزِّية، في اللحظة التي نسي فيها الله وخرج يتنعم على السطح سقط في الخطية.

لذلك احذرْ يا أخي لئلا تقتل نفسك بنفسك، وتَرُد السبب على الآخرين أو على الظروف المحيطة بك.

هذا هو محور المقال الذي كتبه القديس يوحنا الذهبي الفم في منفاه، غالبًا قبل نياحته بفترة قصيرة. وقد قمتُ بتعريبه عن مجموعة: The Writing of the Nicene & Post-Nicene Fathers. مع تبويبه ووضع عناوين جانبية وقد ساهم الأخ نبيل يوسف بنصيب كبير من التعريب.

الرب قادر أن يستخدمه لمجد اسمه القدوس حتى يكون سبب بركة لكثيرين.

 المعرب

نياحة القديس يوحنا الذهبي الفم: 17 هاتور 1687 ش.

       26 نوفمبر 1970 م.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) جريدة وطني 7/ 11 / 65 عدد 360.

(2) عن المقال السابق ذكر.

(3) عن المقال السابق ذكره.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/who-can-harm-you/introduction.html

تقصير الرابط:
tak.la/q6qyn9p