St-Takla.org  >   Saints  >   Coptic-Orthodox-Saints-Biography
 

سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية

القديس مرقس المتوحد *

 

جاءت سيرة هذا الناسك، في مخطوطة يونانية قديمة، ونصها كما يلي(1):

كان الأنبا سيرابيون أبا لستة آلاف راهب يعيشون (متوحدين) في مغارات أرسينوي، وهى الفيوم الحالية، وذات مرة قرر القديس زيارة راهبٍ آخر في البرية (في صحراء ليبيا).

وبعد سفر طويل، استراح عند راهبٍ يدعى يوحنا. وهناك رأى حلمًا، وإذا باثنين (من الملائكة) في زي نسكي، كانا يتحدثان معًا عن شيخ متوحد، يسكن جبل برقة في ليبيا. وجاء في حوارهما أن له من العمر مائة وثلاثين عامًا، منها 95 سنة لم يرَ فيها وجه إنسان. وذكرا أيضًا أنه سيرحل من العالم خلال أربعين يومًا، لينضم إلى زمرة النساك الذين انتقلوا إلى السماء، بعدما قضى حياة حافلة بالجهاد.

ولما استيقظ القديس سيرابيون فجأة من نومه، قص حلمه على الراهب يوحنا. وكان الأخير يعرف عدة أماكن (بليبيا)، إلا أنه لم يسمع عن برقة من قبل، ومع ذلك نصحه بالسفر إلى القديس (الذي أشار إليه الملاكان في الحلم). وودعه متمنيًا حفظ الله له في الطريق، وطلب منه أن يصلى القديس من أجله (عندما يصل إليه).

فاتجه الأنبا سيرابيون إلى الإسكندرية، حيث التقى بقائد لإحدى القوافل الصحراوية (يعرف دروبها). وسأله قائلًا: "هل جبل برقة الليبي بعيد جدًا؟!" فأجابه "نعم"! ثم قال له: "إن السفر عن طريق البحر (المتوسط) أسرع كثيرًا، بينما الطريق البرى (الساحلي) يحتاج إلى نحو ثلاثين يومًا، ربما يعنى باستخدام وسائل الانتقال السائدة وليس بالطبع سيرًا على الأقدام).

لكن القديس (سيرابيون) لم يتردد في الرحيل إليه (سيرًا على الأقدام) وملأ جرته ماء، وطلب معونة الله وإرشاده... وسار في صحراء مارماريكا الموحشة. ومشى عشرين يومًا، دون أن يشاهد طيرًا أو حيوانًا.

وبدأ الماء ينفذ وشعر بالعطش وأشرف على الموت. وطرح نفسه أرضًا متضرعًا إلى الله (لكي ينقذه) وإذ به يجد الشخصين (الملاكين) اللذين رآهما فى الحلم قد اقتربا منه، وقالا له: "قم يا رجل الله، واتبع أثر خطواتنا". فأحس بالراحة (فورًا) وأشار أحدهما (إلى نبع ماء)، وقال له: "تطلع إلى هناك وخذ من الماء الذي يخرج من بين الرمل".

وأشار (الملاك) إلى أعواد نبات جافة، وقال له: "كل منها واستمر في طريقك متكلًا على قوة الله". ثم خاطباه (الملاكان) بأن يسرع الخطى، لأن الأنبا مرقس يريد لقاءه قبل أن يتنيح ثم اختفيا عنه.

وهكذا سار القديس -دون أن يشعر بالتعب- سبعة أيام أخرى، إلى أن وصل إلى سفح جبل برقة وهم بالصعود إليه. ورأى منظر الزهور الجميلة فوق الهضبة وتحتها مياه البحر الزرقاء (وهو نفس الطريق، ونفس المنظر الذي شاهدناه على الطريق البرى من السلوم إلى بنغازى). وتناول بعض الأعشاب البرية، وجذبه النسيم العليل إلى الخلود للنوم والراحة".

وقضى القديس الأيام التالية في البحث عن الناسك العجيب بين الجبل والغابة الخضراء. ورفع قلبه للسماء شاكيًا من فشله فى العثور عليه. وفى منتصف إحدى الليالي، لمح فجأة ملائكة الله تهبط إلى بقعة قريبة منه، وسمعها تقول: "طوباك يا أنبا مرقس لأنك وجدت نعمة عند الله وقد وصل إليك الأنبا سيرابيون الذي كنت تتمنى أن تعرفه، وهو ههنا، وعندما يقابلك استقبله ببشاشة".

وبعد ذلك سمعه القديس سيرابيون يردد هذه العبارات: "يا سيدي الرب، إن يومًا واحدًا فى حضرتك خير من ألف عام في قصور البشر".

ثم تحدث مع نفسه وقال: "إن روحك تبتهج كثيرًا يا مرقس لأنها لم تتدنس بالمعيشة (في هذا الموضع) طوال قرن من الزمان. وان جسدك لسعيد جدًا يا مرقس ، لأنه لم يعرف الشهوات الفاسدة. وان عينيك تفرحان كثيرًا يا مرقس لأن الشيطان لم يدنسهما بالمناظر الخارجية (الشريرة). وان يديك أكثر غبطة يا مرقس لأنهما لم يمسا أو يمتلكا أشياء أرضية. وقد شبعت نفسك من غذاء الروح، وتقدس جسدك بمخالطة الملائكة... باركي يا نفسي الرب ولا تنسى كل حسناته".

ثم خرج من المغارة، ووجهه مبتل بالدموع، ونادى بصوت مرتفع وقال: "يا أنبا سيرابيون أنا أعرف أنك قد وصلت بسلام الله... اقترب منى يا ابني". وعانقه بتأثر، ثم قال: "ليتبارك اسم الرب، الذي قادك إلى هنا... ها قد مرت 95 سنة لم أرَ فيها وجه إنسان، وأنت أول من أقابله... أرجوك الجلوس".

وقد انتهز القديس سيرابيون فرصة وجوده مع هذا الأب الفاضل وسأله عدة أسئلة. فأجابه القديس عن كل أسئلته بكل تواضع وقال:

"ها قد مرت خمسة وتسعون سنة، قضيتها فى هذا الكهف. وعلى هذا الجبل المقدس، لم أذق فيها أي طعام بشري، ولم أرتدِ ملابس ما عدا تلك... وفى الثلاثين عاما الأولى عانيت بشدة من الجوع والعطش والعرى. وماذا يكون كل هذا (التعب) إذا ما قورن بفخاخ الشيطان؟... كان طعامي طين الغدير، وشرابي ماء البحر... وقد أقسمت الشياطين ألف مرة على خنقي ودفعي إلى هوة سحيقة إلى أسفل الجبل. وكانوا يطلقون صيحات مزعجة ويقولون: "اخرج من هذه المنطقة التي اغتصبتها منا، لأنه منذ خلق العالم لم يتجاسر إنسان على التواجد فيها".

وبعد فترة طويلة من تجارب (حروب) الشياطين أشفق الله عليّ وسترني بستر مظلته، ومنح جسدي قوة خاصة، وكانت الملائكة تلازمني باستمرار، وقد ذقت يا ابني سعادة الفردوس، ورأيت نعيم الملكوت المعد للذين يعيشون بالتقوى (في الفضيلة)، كما شاهدت جنة عدن، وشجرة معرفة الخير والشر التي أكل منها آدم وحواء. ورأيت أخنوخ وايليا، في مقرهما غير المعروف على الأرض. وبالإيجاز فان الله لم يرفض لي أية رغبة في التعمق في المعرفة وفى التأملات (الروحية)".

ثم سأله الأنبا سيرابيون: "كيف أتيت إلى هذا الجبل؟" فأجابه بقوله: "يا ابني لقد ولدت في أثينا، حيث عشت سني حياتي الأولى. وتعلمت في مدارسها الفلسفية المشهورة. ولما اختطف الموت أبي ثم أمي كنت أقول لنفسي: لا بد أنك ستموت لا محالة، فما الحاجة بعد إلى علوم تعطيك مركزًا مرموقًا في العالم? إذن فلنعش للرب فقط، ولنتحلل من كل رباطات العالم، ولنتجه نحو الممارسات الروحية (وحدها)". (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ). وفى الحال سافرت إلى شاطئ الصحراء (الليبية)، ثم أتيت إلى هذا المكان، ولست أعرف كيف جئت إلى هنا..."

وسأله الأنبا مرقس الناسك بدوره عن أحوال العالم وعن حكامه (في تلك الأيام)، وعن انتشار الإيمان المسيحي (في العالم المعمور)، وما قابله المسيحيون من متاعب (من السلطات)، ومن المسيحيين من أصحاب الهرطقات. واختتم أسئلته للأنبا سيرابيون بقوله: "هل يعيش قديسون في أيامنا هذه؟ هل يوجد خدام يجرون العجائب، كما أعلن السيد المسيح فى إنجيله؟ فأجابه القديس سيرابيون بقوله: "إن الإيمان (المسيحي) ينتشر وينمو، كنمو حبة الخردل (التي تصير شجرة كبيرة بعد نموها)".

وقال الأنبا مرقس: "ما أشقى الأرض... لأن المسيحيين ليس لهم سوى الاسم فقط، وليس لهم الإيمان الذي يطالبهم به المسيح". وأضاف قائلًا: "أباركك يا إلهي لأنك قدتني إلى الصحراء، وحفظتني هكذا من الاتصال برجال آخرين، ومنعتني من المعيشة في أرض ملوثة بالآثام".

ولما اختفى قرص الشمس وراء أمواج البحر، قال القديس: "يا أنبا سيرابيون لقد حل وقت تسبيح الله، وليقدم (الله) لنا أجمل واجبات الضيافة"!

ولما نطق بهذه الكلمات المباركة، قام وبسط يديه نحو السماء، وبدأ فى تلاوة مزمور (الراعي) وقال : "الرب راعي فلا يعوزني شيء، في مراع الخضر يربضني، إلى مياه الراحة يوردني،... ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقي الخ." يا إلهي كم هي جميلة كأس الخمر التي أمسكها بيدي"!

قال وهو يزرف الدموع: يا ابني لقد أعدت لنا المائدة! فلندخل ولنتناول من الوجبة التي أرسلها الرب لنا". فدخل الأنبا سيرابيون إلى المغارة بدون تردد وأحس كأن غمامة قد ظللتها، فلم يرَ شيئًا. وبعد قليل رأى مائدة وبجوارها مقعدين وفوقها مفرشًا جديدًا عليه خبز طازج أبيض كالثلج، وسمكتين مشويتين، وحلوى شهية، وزيتونًا وتمرًا وعسل النحل.

ولما جلسا قال مرقس: "يا أنبا سيرابيون أرجوك أن تبارك الطعام الذي سنأكله". ولم يجد سيرابيون الوقت لقبول أو رفض الدعوة (للصلاة على المائدة)، لأن يدًا خفية ظهرت من أسفل المائدة ، ورسمت صليبًا كبيرًا على هذا الطعام العجيب!

ولما انتهت الوجبة قام مرقس وخاطب خدامه الغير مرئيين قائلًا: "يا أولادي! ارفعوا المائدة". وفى لحظة اختفى كل شيء!

وحينئذ خاطب القديس ضيفه الذي كان في دهشة من أمره وقال له: "يا ابني أنظر إلى الحب الذي يمنحه الله لخدامه. إذ أنه لم يكن يرسل لي يوميا سوى سمكة واحدة. ومن أجلك أرسل لنا (الرب) سمكتين. وقد حفظني هذا الطعام إلى هذه السن المتقدمة بدون مرض وبلا ضعف ما ولا تعب من أي نوع! والآن أيامي قد كملت وقد قادك الرب إليَّ لتقدم لي الفرائض الدينية الأخيرة. وسامحني عما سأسببه لك من متاعب. وسأرحل هذه الليلة إلى الأبدية. فلنقضها معا في الصلاة وبعد موتي ادفن جسدي في هذه المغارة ثم سد مدخلها بحجارة كبيرة وخذ طريقك إلى ديرك، لأن الرب لا يريدك أن تقطن هنا".

وزرف سيرابيون الدموع وقال: "يا أبي صلِ إلى الرب من أجلي واطلب منه لكي أتبعك حيثما تذهب، لأنني لا أعرف من أي طريق أعود إلى مصر"!

فقال له أنبا مرقس: "يا ابني لا تحزنني بهذه الدموع، لأنها اللحظة التي فيها منتهى فرحي. والرب سيحفظك بأمانٍ تامٍ حتى تصل إلى وطنك، وسأدخل حالًا إلى موضع الراحة الأبدية".

وفجأة أضيئت المغارة بنور مبهر، وتعطرت برائحة جميلة جدًا. ثم قال القديس:

"وداعًا أيتها المغارة الغالية التي عشت فيها مع الله روحًا وجسدًا، وستحتفظين بجسدي حتى يوم القيامة...

وداعًا أيها الجسد موضع الكد والتعب والعوز، بسببك عانيت من الجوع والعطش، والبرد والحر.

والآن تقلد المجد والبهاء.

وداعًا يا عيناي اللتان سهرتا الليالي. الآن اغلقا الجفون.

وداعًا يا قدماي العاريتان اللتان كلتا من الوقوف طويلًا خلال الصلاة.

وداعًا يا اخوتي النساك القديسين الذين يعيشون في مغارات الجبال، والمتوحدين في الصحارى.

وداعًا أيها المسجونون والمضطهدون من أجل ملكوت السموات.

وداعًا يا مؤمنو الكنيسة.

وداعًا أيها المساكين بالروح.

وداعًا أيتها الأرض. ليعش كل من عليك في سلام وفى محبة المسيح".

ثم عانق الأنبا سيرابيون وقال له: "وداعًا لك يا ابني وأخي المحبوب. ليكافئك المسيح عن تعبك فى هذه الرحلة الطويلة... استحلفك باسم الرب ألا تنزع شيئا من جسدي البائس، ولا شعرة واحدة، ولا تضعه في أي رداء... اتركه في الحالة التي خلقه الله عليها"!

حينئذ سمع سيرابيون صوتًا جميلًا كالموسيقى ينبعث من السماء ويقول: "تعال يا ابني مرقس، تعال استرح إلى الأبد فى مواضع السعادة الحقيقية والفرح الروحي". فصاح القديس مرقس قائلا: " لنركع على ركبتينا ، ولنرفع أيدينا نحو السماء".

وفى تلك اللحظة دخل ملائكة غير مرئيين المغارة وصعدوا إلى السماء بروح مرقس وهى متوجه بإكليل المجد. وظل (سيرابيون) يرنم طوال الليل. وفى الصباح حفر حفرة ودفن فيها الجسد، ثم وضع عدة أحجار على فم المغارة. وصلى طالبًا معونة الله لكى يساعده على الرجوع (إلى قلايته). وانحدر ببطء نحو الصحراء. ولما حل المساء ظهر له الملاكان اللذان رآهما (في الحلم) عند القديس يوحنا، وقالا له: "في الصباح أقمت قبرًا لرجل لم يكن العالم مستحقًا له.... لقد قمت بعملٍ من أعمال الرحمة، يرضى الله كثيرًا. ومن الأفضل لك أن تسير ليلًا، لان الجو يكون أكثر اعتدالًا منه بالنهار".

وأطاعهما القديس (سيرابيون) وسارا (الملاكان) وهو يتبعهما ليلًا. وكانا يختفيان عنه بالنهار ويقودانه بالليل إلى أن وصل إلى صديقه الراهب يوحنا".

_____

(1) Manuscrit grec de Bibliothèque de Digoin d’après Chéneau Les Saints d’Egypte, tom. 1, p. 409.

د. ميخائيل مكس إسكندر: تاريخ الكنيسة في بنتابوليس.

* المرجع Reference (الذي استخدمه كتاب قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض شخصيات كنسية للقمص تادرس يعقوب ملطي)


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/Saints/Coptic-Orthodox-Saints-Biography/Coptic-Saints-Story_1657.html

تقصير الرابط:
tak.la/9q8sdgp